وتفسير ذلك أن الحياة بالريف توجه العقل إلى إدراك المطالب القومية، وتروض الذهن على تعرف المشكلات التي تعترض حياة الأهليين، وهي مشكلات ذات ألوان وأشكال، والتمرس بها يخلق القدرة على الإحاطة بما يثور في الصدور من آلام وآمال. فقول العقاد في سعد:
قبل ميلادك لم يشرف أب ... من بني الريف ولم تنجب بطون
لم يرد به غير تأكيد القول في نباهة سعد، فهو يريد التنويه لا الاستقراء؛ وإلا فالشواهد كثيرة على من نبغوا من أبناء الريف قبل سعد زغلول
ومن أطايب هذه القصيدة قول سعد كما صوره العقاد:
صال بالجيش (كمال) ومضى ... بذوي القمصان يسطو (مُوسلينْ)
وأنا الأمة والجيش معاً ... وأنا السيف جميعاً واليمين
من بيان الصدق جرّدتُ لهم ... عدة تصمى الكماة الفاتحين
أنا مصر وهي في سؤددها ... أنا مصر وهي الأسر سجين
أنا ألقيت على عاتقها ... حملها المطروح بين الآخرين
وهذا البيت جيد جداً، ومعناه أن سعداً راض الأمة على أن تحمل وحدها عبء الكرامة القومية، وهو عبء لا يحمله غير من وصل إلى شرف الفهم لقيمة التكاليف الثقال، ولا تضيع الأمم إلا حين تتوهم أن الحرية مغنم يساق، وليست مطلباً ينال بالدماء، وتشقى في سبيله عزائم الرجال
ومن روائع هذه المرثية قول العقاد في شخصية سعد:
يَعجبُ المرء أشخصٌ واحدٌ ... أنت أم شتَّى شخوص وفئين
ناضر النفس وإن لاحت على ... وجهك السمح سمات وغضون
وغضير القلب لا يألوك في ... صَرعات النزع في نبض رزين
تأخذ اللب برأيٍ ثاقب ... وفكاهاتٍ عِذابٍ وفنون
ضَحِكُ الأطفال في الطيب إلى ... ضحك الأقدار في الجد الرزين
يوم ودعنك ودعت امرأً ... يملأ الدنيا ويَقضِي ويَدين
وأحيّيك لألقاك غداً ... حجراً يعلوه نوّار الغصون