فلقد كان في أيام الفراعنة قصور وأحياء للأشراف وأحياء للعامة
وقد عقد المرحوم جورجي زيدان موازنة بسيطة بيم دور الأشراف في روما إبان عمرانها وبين دور الأشراف في قرطبة إبان عمرانها كذلك، وكانت في الأولى ألفين - على ما رواه (جيبون) وفي الثانية أكثر من ستة آلاف - على ما رواه المقري نقلاً عن غيره
وأعجب ما في قرطبة من بدائع الفن وروائع الهندسة العربية آيتان: القصر الكبير والمسجد الجامع. أما القصر الكبير فكان مؤلفاً من ٤٣٠ داراً كالكامل والمعشوق والمبارك وقصر السرور وغيرها
وكان في هذا القصر من العجائب الكثير سأل عنه ابن بشكوال فقال بعد كلام:(وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثم للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف، ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان منذ فتح الله عليم الأندلس بما فيها في قصرها البدائع الحسان، وأثروا فيه الآثار العجيبة، والرياض الأنيقة، وأجروا فيها المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة، وتمونوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر الكريم وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرصاص، تؤديها منه المصانع صور مختلفة الأشكال من الذهب الأبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه، إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة. . . وفي هذا القصر القباب العالية السمو، المنيفة العلو، التي لم ير الراءون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها).
وقد بناه عبد الرحمن الداخل الأموي بعدما فر من الشرق ووطد لنفسه في الأندلس ملكاً، وزاد الأمراء من بعده عليه كلُّ على حسب طاقته. ومن المؤلم أن تتطاول يد الزمان وتمتد إلى قصور ذلك القصر وتقتلعها من أساسها، وتدكها من قواعدها، ولم يبق منها بعد مثولها للعيان، وكونها في الزمان، نقش ولا أثر، إلا أثراً يذكر وخبراً يسطر، وقصة تروى، وحديثاً لمن ألقى السمع
وقد اصطلحت على محو تلك القصور والدور عوامل من الزمن، ودوافع من الإحن والمحن. أما الزمن فقد تطاول، والبناء لا يبقى على التطاول، ولا يدوم على امتداد. وأما الإحن والمحن فقد اختلفت على قرطبة، وحدثت الثورات، وفتكت يد التخريب، وأصبح