تكوين البنية، ولا حرج إذن على الشاب (المطبوع) أن يصدق عنها بفطرته وينصرف إلى ما تصرفه إليه طبيعة التكوين؟
وأديبنا هذا يحسب الكتب أوراقاً وحروفاً من صنع الحداد وابتداع المخترع الحديث؟
ولهذا هي عنده متاع (مصنوع) وليست بالمتاع المطبوع الذي له في البنية أساس كأساس الجوع والضما وسائر الشهوات
أما معاني الكتب وما تبعثه من شعور فلا تدخل له في حساب. ومعاني الكتب مع هذا شيء حيوي عضوي يمتزج بالتكوين الإنساني كما يمتزج به الغذاء واللهو والرياضة، لأنها من وظائف الوعي الذي هو خلاصة الشعور والإدراك. وهل للحياة الإنسانية بغير (الوعي) وجود؟ وهل لوجودها بغيره قيمة؟ وهل تختلف قيمة الإنسان الذي ينحصر وعيه في المطالب الحيوانية من قيمة الحيوان؟
فالقراءة ليست هي الورق المصنوع من الخرق والعيدان، وليست هي الحروف المسبوكة من المعدن، وليست هي المطبعة التي تدار بالبخار والكهرباء، وتدخل من أجل ذلك في عداد البدع والمستحدثات
كلا؛ بل القراءة هي اتساع الواعية بما يضاف إليها من التجارب والأحاسيس والمعارف والمعقولات، وهي امتداد الحياة إلى آفاق لم يكن يبلغها الفرد في عمره القصير، وهي بديل من السياحة، ومن البحث عن المجهول، ومن الإصغاء إلى النوادر والحكايات، ومن تحصيل التجارب التي يتحدث بها المجربون ومن كل تشوف مطبوع في أساس التكوين، لأنه امتداد لحواس النظر والسمع والإدراك على تعدد وسائله وأدواته. وليس يصح قول القائلين إن الكتاب لذة مصنوعة لأنه يطبع بالبخار والكهرباء إلا إذا صح إن يقال أن الرغيف لذة مصنوعة لأن البخار والكهرباء مما يصنع عليه الخبز في العصر الحديث
فالوعي هو الحاسة الكبرى التي تطلب القراءة
والوعي هو الحياة في أصدق معانيها وفي أوسعها وأرفعها على السواء
وهنا مناط الامتياز والتفرقة بين أجناس بني آدم، فأيهم كان أكثر وعياً فهو أكثر استطلاعاً بمختلف الأساليب، والقراءة أعم هذه الأساليب
ويبدو لنا على نحو يشبه اليقين أن الفرق بين الآدميين في مسألة (الوعي) كالفرق بين