وإنما أوصيك بالصدق في جميع الأحوال، فإن اتفق رأيك مع رأي قومك فسر معهم باطمئنان، لأن التوافق الإجماعي له دلالة معنوية لا يستهين بها العقلاء، وهو يزيدك قوة إلى قوة، ويمدك بالعصبية الفكرية، وهي عصبية لا توجد أسبابها إلا في أندر الأحايين، وتلاقي المفكر الصادق مع قومه فرصة من فرص التوفيق. . . وبالله نستعيذ من الخذلان!
وإن رأيت أن الحق في جانبك أنت، وأن قومك مخطئون، فتذكر أنك لهذا المقام خلقت، وأن الجبن هو الآفة التي لا يسلم من شرها غير الموهوبين، وأن الشجاعة هي أعظم مناقب الأحرار من الكتاب
وهنا دقيقة قد تخفى عليك وعلى من قل حظهم من التجارب، وهي الوهم الذي يقول بوجوب النضال في جميع ضروب الخلاف. فاحترس من هذا الوهم كل الاحتراس، واعلم بأنه لا يجوز لك أن تجاهر بمخالفة قومك ألا في الشؤون التي يكون فيها سكوتك إثماً تحاسب عليه أمام الذي جعل سواد المداد أشد إشراقاً من بياض الصباح
إن قومك يختلفون في كل يوم - واختلاف من أظهر خصائص إنسانية - فلا تناضلهم في كل خلاف، وألتزم الحياد في اكثر أوقاتك، إلى أن تحين الفرصة التي توجب الجهر بكلمة الحق، ولو تعرضت لأفظع المكارة والخطوب
واعلم انك ستبتلي بأقوام يرون غير ما تراه في أكثر الشؤون، وقد يدعونك إلى الترحيب بأن تكون أسير زمنك، أجير وطنك، بحيث لا تنطق بغير ما يستسيغ زمانك وبلادك. وهنا يكون الخوف عليك، وقد تهوى إلى أحط تركات الأسلاف، فما ذل شاعر ولا كاتب ولا خطيب إلا بسبب الخضوع لما قد يريد أبناء الوطن وأبناء الزمان، بلا تدبر ولا أدراك. وكيف تطيع أولئك في كل وقت وهم في بعض أحوالهم فقراء من الوجهة العقلية والروحية، ولا يساير هواهم غير الضعفاء؟
وما الغاية من وجودك إذا كنت صورة مكررة من وطنك وزمنك؟
وبأي حق تحمل القلم إذا خضعت لما يملأ عليك العوام وأشباه الخواص؟
وهل قلت الآراء المنخوبة حتى يضاف إليها رأي من صنفها المنخوب؟
وما قيمتك وأنت تغني صوتاً ليس من تأليفك ولا تلحينك؟
وما قوتك وقد صرت حاكياً لأقوال لم تصدر عن وحي ضميرك؟