وما انتفاع الأمة بك وأنت صوت يكسبه العهد القديم في أذن العهد الحديث؟
يجب حتما أن تكون لك ذاتية جديدة، ذاتية متفردة يجهلها الزمن الماضي، ويهابها الزمن الحاضر. يجب حتماً أن يستقل وجودك في كل يوم عن حاضرك وماضيك، فتطلع مع الشمس بنور جديد، وتواجه الليل بتأملات لم يشاهد مثلها مع قوم سواك. يجب حتما أن تنظر في آرائك كما تنظر في أثوابك، فالآراء تَبلَى كَما تَبلَى الأثواب؛ والذي يعيش على رأي واحد قد يكون أجهل من الذي يعيش بثوب واحد. فأحذر من العيش وأنت بالي الآراء، كما يحذر من يلقى الناس وهو بالي الثياب
وقد يعيرك الغافلون بالتنقل من رأي إلى رأي، مع أنهم لا يعيرون من يلبس ثوب بعد ثوب، وإنما كان ذلك لأنهم يجهلون أن الآراء من الصور الحيوية، ولأنهم يتوهمون أن الثبات على الرأي الواحد من شواهد اليقين. ولو عقلوا لأدركوا أن العين التي تنظر بأسلوب واحد هي عين بليدة لا تدرك الفروق بين دقائق المرئيات، وكذلك يكون العقل البليد وهو الذي لا يدرك الفروق بين المعنويات والمعقولات، ولها وجوه تعد بالألوف وألوف الألوف
فهل تعقل هذا الكلام، وأنت تحاول الاضطلاع بحمل رسالة القلم البليغ؟
وهنا أيضاً مجال للخوف عليك، فقد يقع في وهمك أن المفكر الحق هو الذي يسرع في التنقل من رأي إلى رأي. هيهات ثم هيهات! فالرجل لا يغير رأيه إلا بقدر ما يتحول الجبل من وضع إلى وضع. وما كان ذلك إلا لأن الأصل في الرأي أن يكون عقيدة فكريه أو روحية، والعقائد لا تغير بالسهولة التي نغير بها الثياب. وإذن يجب أن لا تتحول من رأي إلى رأي إلا وقد تحولت من حياة إلى حياة؛ وهذا قد يقع من لحظة إلى لحظة، وقد لا يقع إلا بعد أعوام طوال وفقاً لاستعدادك في تلقي وحي الوجود
والمهم أن تكون أنت أنت في تحولك وقرارك، فلا تكون أداة للتعبير عن أوهام زمانك وبلادك، ولا تكون ظلاً لعظيم من العظماء، أو حزب من الأحزاب، إلا أن بدا لك أن تصير من طلاب المغانم، وهو مصير لا يعاب، وإن كان يزحزحك عن فردوس البيان، فما قال قوم بأن الأدب للأدب، أو الفن ' ' إلا وهم يرجون أن تكون لنا دولة لا يتطاول إليها أصحاب المناصب والألقاب