لا نأمل في هذه العجالة أن نحيط بأفاق طاغور الفلسفية المترامية أطرافها، بل من ذا الذي منى نفسه بأن ينال من طاغور هذا المنال؟ ولكنما نريد أن نلم به اليوم إلمامه الطارق العجلان ريثما تتيسر زيارته الزيارة الطويلة، زيارة المحب ليقضي شوقه من زيارة الحبيب، وإذا لم يكن المجال يتسع لنا بأكثر من هذا، فلنعطف النظر إلى ناحية أخرى عظيمة من نواحي طاغور العظيم
كان طاغور إلى ما نعم به من سمو تفكيره جنديا من جنود الوطنية الهندية على نحو مبتكر جديد لم يكن قد سمعه من قبله الناس. كان طاغور يعشق الحرية عشقاً ظهرت آثاره في مؤلفاته كلها، والحر ليس يرضيه أن يقيم فرد من البشر في قيد الإسار فضلاً عن رضائه على رؤية الملايين من أولئك البشر أسرى خاضعين، ولهذا التنافر بين طبيعته الحرة وما أصيبت به الهند من عوادي الاستعمار برز طاغور في ميدان الوطنية وبذ فيه غيره من المكافحين
كان طاغور يتعشق الحرية ويتعشق السلام في آن واحد. والناس اليوم لا يستطيعون أن يسموا إلى الجمع بين هذين المبدأين، ذلك لأن قلب الإنسان - وإن شئت فذهنه - لم يصل من الكبر والعظمة إلى الحد الذي يتسع فيه لهذين المبدأين في الوقت ذاته. وإذا ما رأينا من إنكارهم لوطنية طاغور التي خفيت عليهم فإنما مرجع ذلك هذا الاختلاف في التفكير والاختلاف في محبة المثل العليا والتأليف بينها. فقدر طاغور على ما لم يقدروا، وجمع أكثر مما جمعوا، وسما عليهم وبمعجزة أخرى هي سلامة المثل العليا وعدم تنافرها في نفسه بل كانت جميعاً عنده تسير في وفاق والتئام
دعا طاغور إلى الحرية، ودعا إلى تحرير البشر من إسار أقويائهم، ولكنها كانت دعوة موجهة إلى جهة الإيجاب البانية لا إلى جهة السلب المدمرة، وهو في هذا يختلف عن زعماء الوطنية الآخرين الداعين بتطرف إلى الجانب المضاد لضفة طاغور السهلة الجميلة. وليس بدعاً أن يدعو هذا المفكر الجبار لهذه الدعوة، إذ بها وحدها كان يضمن التوفيق بين عقيدتيه اللتين تنافرتا من اجتماعيهما عند غيره من الناس، عقيدة الحرية والوطنية وعقيدة تسوية السلام والمحبة بين الناس
إذا شئت أمثلة من وطنية طاغور فاسترجع في ذهنك الضجة التي أحدثها منذ أمد قريب