البركة في منظر يعجب الناظر ويبهره. . . فتسقى من هذا الماء الممجوج رياض القص وجنائنه على رحبها، ويجوز الفضل من ذلك الماء إلى النهر
ويبدع الواصف لهذا القصر - سواء كان المقري أو أبن الفرضي - في وصفه سطحه الممرد المشرف على الروضة ووصف مرمره المسنون، وذهبه المصون، وعمده ونقوشه وبركة وحياضه وتماثيله. وكان يخصص لبحيرة الزهراء كل يوم أحمال وأوزان من اللحم والخبز المصنوع من الحمص الأسود غذاء لحيتانها وأسماكها. . .
وهنا تعمد الرواية التاريخية إلى الإغراق في المبالغة والمغالاة في الإحصاء والأرقام مما لا حاجة بي إلى ذكره في هذا المقام. وهي مبالغة تدل على شيء كثير من الحق، وتصور لنا هذه القصور والدور في صورة نستطيع أن نتخيلها لا بحقائقها ولكن بما أضفي عليها من تهويل وإغراق
وكان الرخام يجلب إلى الزهراء من قرطاجنة وأفريقية وتونس، واشترك في وضع الرخام ولصقه علي بن جعفر الإسكندراني. ولعله اجتلب من الإسكندرية خاصة لذلك
وازدهرت (الزهراء) في عصر الناصر ازدهاراً كاد يضيع من مكان قرطبة ومحلها. وشغل الناصر نفسه بالبناء والعمارة وإتقان القصور، وزخرفة المصانع في الزهراء حتى عطل شهود الجمعة ثلاث جمع متواليات، مما جعل القاضي العادل والواعظ الناصح منذر بن سعيد يعرب بأمير المؤمنين مبتدءاً الخطبة بقوله تعالى:(أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم مخلدون) ومذكراً فيها بالدنيا الزائلة والحياة الفانية، والدار الباقية والموت المفاجئ، والقدر المواتي، مما أبكى الناصر وأحنقه على منذر لشدة وعظه وغلظة تقريعه
وكان منذر بن سعيد هذا يكثر تعنيف الخليفة الناصر على اهتمامه بالبناء إلى حد كاد ينسيه أمور دينه، وشؤون آخرته. ويروي المقري عن الحجازي في كتاب (المسهب في أخبار المغرب) أن منذراً هذا دخل على الناصر يوماً وهو مكب على الاشتغال بالبنيان فوعظه، فرد عليه الناصر قائلاً:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان