إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان
ولا يدري الراوي إن كان هذا الشعر الناصر أم مما تمثل به في هذا المقام
لقد شهدت قرطبة منذ الفتح العربي إلى أيام المنصور بن أبي عامر في أواخر القرن الرابع الهجري كثيراً من نواحي الجلال التاريخي، فبقيت زهاء ثلاثة قرون تتمتع بحكم مستقر، وملك وطيد وعمارة وبناء، ويسر ورخاء؛ إلى أن نكبت في النصف الأول من القرن الخامس الهجري الحوادث الجسام وخاصةً في زمن المستعين بالله سليمان وفي دولتيه اللتين مكثتا ست سنين وعشرة أشهر، وهي تلك المدة التي يصفها أبن بسام صاحب كتاب الذخيرة ناقلاً عن أبن حيان قوله، وكانت كلها شداداً نكدات، صعاباً مشئومات، كريهات المبدأ والفاتحة قبيحات المنتهى والخاتمة، لم يعدم فيها حيف ولا فورق فيها خوف، ولا تم سرور، ولا فقد محذور، مع تغير السيرة، وخرق الهيبة، واشتعال الفتنة، واعتلاء المعصية، وظعن الأمن، وحلول المخافة
وشهدت قرطبة أيضاً الفتنة في زمان المستظهر، وحبسته الشنيعة في أتون الحمام حين قام الدائرة في وجهه وزرقوه وهم يسبونه، فارتد على عقبه وترجل عن فرسه وتجرد من ثيابه حتى بقي في قميصه واستخفى في أتون الحمام ففقد شخصه، ثم أخرج في قميص مسود بحال قبيحة حيث قتل أمام أبن عمه المستكفي. . .
وشهدت قرطبة في سنة ٤١٤ هـ ثورة لتعويل أهلها على رد الأمر لبني أمية الذين اغتصب سلطانهم بنو حمود، وبايعوا المستظهر الأموي الذي قتله حفيد الناصر وجلس على العرش باسم المستكفي بالله - وهو والد ولاّدة الشاعرة الأندلسية المشهورة - ثم قتل المستكفي وجاء بعده - بعد فتن وحوادث - المعتمد بالله آخر ملوك بني أمية بالأندلس
ظلت قرطبة منذ الفتح العربي مقصد أهل العلم وطلاب الأدب، يفدون إليها انتجاعاً للعلم أو طلباً للحكمة كما كانت بغداد والقاهرة في المشرق. ويذكر القاضي صاعد الأندلسي أن أبن البغونش الطبيب الحكيم الأندلسي رحل من طليطلة إلى قرطبة لطلب العلم بها
ولم لا تكون قرطبة مقصد العلماء والشداة من أهل الحكمة والمعرفة والنظر والفلسفة، وقد كان من أهلها الطبيب الفلكي الفيلسوف يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة، والرياضي الحكيم أبو القاسم مسلمه المعروف بالمرحيطي. وكان من تلاميذه أبن السمح وأبن الصفار