ارتأيت ألا يبدي أحداً رأياً في مسائل الأخلاق والدين والاجتماع إلا مكتوباً، فيأمن مغبة التزيد الشنيع الذي يتزيد بعض خساس الناس على الأحاديث ترسل إرسالاً في المجالس والنوادي والمجتمعات. وذلك أن الكلمة المكتوبة، خلافاً للكلمة الملفوظة، لا تقبل التزيد ولا التحريف المقصود، أو غير المقصود، وإن ركب أحد المعاندين المكابرين رأسه وحاول أن يزيد أو ينقص أو يحرف فيما كتبت ونشرت، فأنت بما تملك من سلاح المنطق والرجوع إلى الحقائق والاحتكام إلى الرأي العام خليق أن ترده إلى محجة الصواب أو تلقمه حجراً إن كان لا يسد فاه إلا حجر. ولا أنكر أن للرأي قوته وإغراءه وللنصيحة ما تستأهله من إصغاء تام، لا سيما وهذه الأيام هي الأيام التي تروج فيها سوق الرواة المتزيدين المحرفين المشنعين. ولكن، ولا بد من لكن هنا، هل ينجو صيارفة الفكر وصاغة الكلام من مساوئ التشنيع والتزيد والتحريف لو اعتصموا بالصمت ولاذوا بالسكوت كما تنصح لهم أن يفعلوا يا دكتور؟! أما أنت فقد أجبت جواب الموقن أنه ما على المرء لينجو من مساوئ التزيد والتحريف إلا أن يطبق شفتيه ويطلق قلمه ينقل إلى القارئين آراءه وأفكاره فلا تعبث بها الأهواء الخبيثة والذواكر العابثة. أما أنا، وأني على أشد اليقين مما أقول، فلا أرى الاعتصام بالسكوت في النوادي والمجالس الخاصة أو العامة منجياً من أذى التزيد والتشنيع لسبب واحد بسيط يكاد لبساطته وشيوعه لا يخفى على أحد: فقد تنجح في أن تروض نفسك على ألا تبدي رأياً في شؤون السياسة والدين والاجتماع إلا مكتوباً، ولكن ما حيلتك في هذا النفر الذين لا يعنيهم أن يسمعوا رأيك خارجاً من شفتيك أو مدوناً في صحيفة أو كتاب فيمضون يشيعون أنك قلت كيت وكيت وارتأيت زيت وزيت؟
هذا شيء، والشيء الآخر وجوب الكلام أننا قد نفيد في عرض أفكارنا على غيرنا قبل إثباتها على الورق فائدة التمحيص لهذه الأفكار وإزالة الفضول، فنعدل عن الفكرة الجائرة، وتعدل الفكرة الحائرة ونثبت على الفكرة الصائبة
وشيء ثالث أن كثيراً من المفكرين لا يجدون الوسيلة إلى التدوين، أما لأنهم خطباء مرتجلون أو لأنهم لا يجدون الصحيفة تنشر لهم ما يرتأون، فهل يصمت هؤلاء أو يتكلمون؟!