سارت السفينة مع الريح جنوبا، وكان يهب من الشمال شديدا، فسرعان ما بلغت أرخبيلاً يقع إلى الجانب الأدنى من بوغاز (مالقة) فانقلب اتجاه الريح فاصبح حاراً لافحا، وبدأ العطش يأخذ من الرجال فاستنفذوا صهريج ماء كامل. وفتحوا الصهريج الثاني وبفتحته انفتحت طاقة من جهنم.
ففي مساء ذلك اليوم مرض ثلاثة من الرجال مرضا مفاجئا، وماتوا موتا سريعا فلم يمهلوا ربان السفينة ليفعل بهم ما اعتاد ان يفعله بالمرضى إذا قل فيهم الرجاء. فاستاء الربان وتشاءم وتربص شرا. وقذف الرجال الأحياء بالرجال الأموات من فوق ظهر السفينة إلى البحر، إلى أفواه القروش التابعة، ووحوش الأقيانوس السابحة، وكان في وجوههم جزع، وفي عيونهم رعب، وكانت في الجثث بشاعة وشناعة.
في الصين يعيش الناس في فقر مدقع وجهالة سوداء، وهذان يلدان القذارة فإذا حلت الهيضة (الكوليرا) بهم راعتهم اشد الروع فان كانوا على الأرض فروا منها وتفرقوا سراعًا في كل صوب، وفرقوا معهم عدوى المرض في كل ناحية، وان كانوا حيث لا مفر ولا منجاة استسلموا استسلاما كاملا، واشتد بهم الخوف فجمدوا عن الحركة وهذا ما حدث لسكيم وحكيم وأصحابهما على تلك السفينة المشئومة، فانهم جميعهم جلسوا القرفصاء ودلوا وجوههم بين أرجلهم يحدقون في الأرض تحديقا شديدا كأنما يريدون خرقها بانظارهم، وهم إنما يفكرون فيمن تكون عليه النوبة التالية، وبأي اسم يهتف الهاتف عن قريب.
ولم يطل تفكيرهم طويلا، فما انتصف النهار التالي حتى أجاب الهاتف منهم ستة رجال، وما جاءت العشية حتى زاد هؤلاء عشرة آخرين. وجاء النهار مرة أخرى وجاءت شمسه، وأخذت تصب على السفينة أشعة لا من ضياء لطيف ولكن حمما من النار، وكان من حولها البحر هادئا ساكنا كأنه صفحة الزجاج، تشقه السفينة بصدرها فيسمع انشقاقه واضحا في هذا السكوت الرهيب.
وزاد جدول المرضى وطال، وتحرك الريح فزادت سرعة السفينة، وما لبثت أن تراءت لها شواطئ جزيرة (سومطرا) وكان البحارة خمسة فمات منهم ثلاثة. ومات اكثر الركاب أو كانوا في سبيل الموت، وأحدق الأحياء إلى الأرض البعيدة، إلى الأمل النائي، إلى الحياة