وأرجو أن يفهم هذا القول فهماً عميقاً، لأننا إذا فهمنا فكر الإنسان على هذا، أدركنا موضعه ورسالته في الوجود، وأحللناه محلاً رفيعاً يدفعه إلى العمل والسير في منهج محدد واضح، وحملنا ذلك على أن نحوطه دائماً بقوانين تحفظه من الارتداد والضلال، ونتدرج به حتى نستوعب كل مباحث المواد والقوى، ونستخرج به أسرارها الكامنة، وننتقل به نقلة تسلمنا إلى الوقوف على عتبات عالم آخر، لعله أن يكون عالم النفس. . .
وإن إدراك النفس لا يتأنى إلا بعد إدراكها ما في الكون المادي؛ وهذا هو سر قلقها ونبشها في الطبيعة وعدم رضاها عن ركن واحد منها؛ وكلما أخذت من الطبيعة سراً، أحست أنها تقترب به إلى إدراك ذاتها الجزئية، لتدرك من وراء ذلك علماً من الروح الأكبر!
أجل. إن إدراك الكون لا بد منه لإدراك النفس، إذ أن الفكر يرى كل عمق في الحياة المادية يصير ضحلاً بعد ترديد النظر عليه واستيعابه بالإدراك. وطبيعي أن تشعر النفس بعد هذا الاستيعاب أنها أوسع وأعمق من الموجودات المادية؛ وأن ترى آفاق الحياة المادية عديدة لا أكثر وليس لها عمق ولا نهائية؛ فهي في موجودات الطبيعة ومستحدثات الإنسان لا تتعدى اختلاف النسب التركيبية بين العناصر التي تزيد قليلاً على التسعين.
وما يخيل إلى البعض من أن هناك أعماقاً وأغواراً لا تنتهي في المادة إنما هو صورة مما يحدث للناظر إلى لوحة فنية بارعة ذات صنعة موحية مثيرة للشعور باللانهائية. حتى إذا ما كشط سطحها قليلاً تذكر أنها ليست أكثر من تمويه وتخييل وبراعة في بسط الأصباغ والأضواء والظلال وقبضها، وتكشّف له السطح الزاخر باللانهائية عن باطن محدود لا يتعدى ألوان الطيف السبعة!
إن الإنسان لم يعد يؤلمه الماء والنار والهواء والتراب ويفرغ عليها أوهام القداسة والهول اللذين كانا لها في ذهنه قديماً، بعد أن حلل عناصرها وركبها وتسلط عليها وسبر أغوارها. ولم تعد النفس العالمة التي تشرف على لجة البحر أو لجة الهواء أو أغوار التراب أو جحمة النار، ترى فيها أكثر من مواد وقوى عمياء محكومة بقوانين أخذتها النفس في حوزتها وجعلتها من مدخرات فكرها، وتستطيع أن تولد بها ناراً وهواء وماء. . .
إني أشعر حينما أقلب بصري في آفاق السماء وآفاق الأرض أن فكري لا يستطيع التعمق