بها أفراد من الزهاد والصوفية. نوادر فَرِح بها عشاق الصراحة والعدل فسجلوها بطنطنة وتهليل، لأنها كانت في أنظارهم من جملة الغرائب والأعاجيب. . . وهل يُنَصّ على شيء إلا إن كانت فيه غرابة توجب الالتفات؟
وخلاصة القول أني أدعو إلى مدينة العصر الحديث، فهي آخر ما اهتدت إليه العقلية الإنسانية، وإن لم تخلُ من نقائص وعيوب. وسنساير هذه المدينة إلى أن تجئ مدينة أفضل منها وأنفع، على فرض أن العقل الإنساني يرتقي من يوم إلى يوم.
ولعله يكون كذلك بفضل ما يرتطم فيه من مآثم الطغيان الدولي؛ وهو طغيان يخلُق النفرة من البغي والعدوان، ويؤرّث نار الثورة على الظلم والظالمين.
والحق أن عيوب المدينة الحديثة ليست بشيء بجانب مزاياها الأساسية، وإنما يقع الخطأ من الغفلة عما لها من محاسن، والوقوع فيما لها من عيوب. ولو كان لنا جميع فضائل الأقوياء وجميع مساويهم لتبدّل الحال غير الحال وصرنا على جانب من المَنَعة نصاول به من نعاصر من كبار الشعوب، ولكن الخوف يساورنا من ناحية واحدة، هي صعوبة التسلح بالفضائل وسهولة التردي في العيوب.
وهنا نقطة دقيقة لا أحب أن يَغفُل عنها قرائي، فقد يتوهمون أني أنهاهم عن اتباع ما ورثوا من محمود التقاليد، - وهذا وهمٌ فظيع - ففي التقاليد القديمة أشياء وأشياء تستحق الإعجاب. وليس عندي ما يمنع من أن يكون فينا من يساير المحمود من تقاليد القرن الثالث أو الرابع، على شرط أن يحسّ تلك التقاليد إحساساً يمنحها قوة الفاعلية الأخلاقية، أما متابعة السلف بلا وحيٌ ولا إحساس فذلك ضربٌ من الجمود البغيض، لأنه يرّدنا إلى الحيوانات التي تسير في طريقها المرسوم بلا تبّصر ولا إدراك. وبالإشارة يكتفي اللبيب!
لك أن تساير ما تشاء من المبادئ الأخلاقية، ما دمت تؤمن بالمبدأ الذي ارتضيته منهاجاً لحياتك. . . وقد أصل إلى أبعد الحدود فأقول: إنه لا خوف عليك من التخلق بأبغض الأخلاق في نظر المجتمع، على شرط أن تكون اقتنعت في سريرة نفسك بأنك على هدّى وأن معارضيك في ضلال. فالذي نشكوه هو ضعف العزيمة الُخلُقية، كأن نرى جماهير تسير سير القطيع بلا إرادة ولا تمييز، وتلك بداية الخذلان.
يجب حتماً أن تكون لك إرادة صحيحة فيما تنصرف عنه وما تُقبِل عليه. ولا قيمة