فيما نأتي وما ندع، بغض النظر عن الاهتداء إلى طريق الصواب. وقد ينتفع المخطئ أعظم الانتفاع بما يزاول من أخطاء، لأن الله لا يحاسب من يقعون في الخطأ عن جهل، ولأن أعمالهم حين تتسق مع ضمائرهم تصون الشخصية الخُلقية من الانحلال، ولا كذلك من يعملون الصالحات بغير نية أو عقيدة، فأعمالهم لا تقدم ولا تؤخر.
وفي رياضة النفس على التطبع بكرائم الأخلاق أواجه الموضوع بعبارة أوضح وأصرح فأقول:
إن عندنا اليوم جمهورين يقتتلان حول القديم والحديث من التقاليد، ولكنه اقتتال غير منبعث عن عقائد راسخة الجذور في الصدور، ومن أجل هذا ظل عديم الجدوى في إيقاظ الحياة الأدبية والاجتماعية، وقد ينقضي هذا العصر بدون أن نشهد ثورة فكرية تحل عقال الأفئدة والعقول كالثورة التي شهدها من عاصروا محمد عبده وقاسم أمين.
ولكن ما أسباب هذا الجمود الدميم؟
ترجع الأسباب إلى نوع الحياة التي يحياها المفكرون في هذا الجيل. وهم فريقان: فريق يعيش في ظل الوظائف الحكومية، وفريق يعيش في ظل المنافع السياسية.
أما الفريق الأول فأسير للمثل المغربي:(صاحب الوظيف وصيف) وانطباق هذا المثل على الموظفين لا يحتاج إلى بيان.
فالموظف في مصر يهدَّد في رزقه وأرزاق أبنائه حين يتعرض لغضب المجتمع؛ والمجتمع يغضب لأضعف الأسباب؛ وهو يريد أن يكون الموظف أداة حكومية كالأداة التي تسجل حضور الموظفين في الصباح بدون أن تعرف ما تصنع، فإن استباح الموظف لنفسه حرية الفكر والقول فله الويل!. . . أليس في الدنيا أناس يحرَّضون الرؤساء على مرءوسيهم بالخطابات السرية أو بالغمز المرذول في بعض المجلات؟
وعلى هذا يكون الأمل ضعيفاً جداً في انبعاث الحياة الفكرية من بيئات الموظفين، مع أنهم صورة الاستنارة الفكرية في جميع البلاد، بفضل حظوظهم من التثقيف والتهذيب.
وأما الفريق الذي يشتغل بالسياسة من أهل الفكر والعقل فالأمل في ثورته على غفلة المجتمع أضعف من الضَّعف، لأن هذا الفريق يفكر دائماً في المعارك الانتخابية، وهي معارك لا يفوز فيها من يتعرض للقال والقيل، ولو كان من أكابر الحكماء السياسي لا ينجح