وكلما رأيت أغلب مناطق الأرض لا تزال خالية من السكان أو غير متشبعة بهم. . . قلت: هذه مساكن احتياطية لأقوام آتين ستلجئهم ضرورات الزحام إلى سكناها وتعميرها وتعديل مهودها؟ وأجوائها وإخصاب بقاعها. . .
وكلما رأيت البحار السبعة وما فيها من عوالم وعناصر وموارد للطعام والدفء والصناعة. . . قلت: هذه قدور هائلة يطبخ فيها مستقبل مجهول لهذا المخلوق. . .
فهذه المقادير العظيمة من المياه والمعادن والأراضي والغابات ظلت تفيض فيوضها بالكيل الواسع، وتدور دوراتها وترجع من غير أن ينتفع بها أحد انتفاعاً يبرز غزارتها إلى أن أتى عصر تفتح حاجات الإنسان الصناعية والعمرانية بتفتح أسرار الطبيعة لفكره، فإذا بهذه الموارد التي كان يظن البعض أن فيها إسرافاً وتبذيراً يبدو لعيون العلماء وأرباب الصناعات والأعمال أنها موزونة متكافئة مع نمو حاجات الإنسان واتساع افتنانه. . .
هذه الحياة الصناعية البارعة المعقدة كانت هي أعظم الموحيات الآخذات نفسي إلى الإيمان بالإنسان وإلى الكشف عن قوته الإبتداعية النامية المنمية. وإن بها تفرده وامتيازه بين الكائنات في إحداث الأشياء، وفي تغلبه على غيره من الحيوانات، بل وفي تغلب بعض أقوامه على بعض. وقد نمت قوته الصناعية نمواً عظيماً حتى بدت في هذه القوى الساحقة التي يستخدمها الآن في حربه. . .
ولا شك أن إنسان الصناعة هو سيد الأرض. أما إنسان الزراعة فمهما افتن فيها وهندس واجتهد فإن حياته حياة بدائية، لا تعقد الفكر ولا تترك في الأعصاب أثر القوة والابتداع والسيادة. وقد صارت الزراعة الآن خاضعة إلى حد كبير للصناعة ذات تبعية لها. . .
ولذلك رأينا الأمم الصناعية تسود الأمم الزراعية على رغم القلوب الطيبة والمثل العليا التي تشيع بين الزراعيين في العادة منتقلة إليهم من اعتمادهم بعد بذل جهودهم على منزل الغيث وباعث الخصب. . . ومن طول معاشرتهم للنعاج الوديعة والبقر المطيعة والأنعام التي تعطي ولا تأخذ، وتسام على الخسف ومع ذلك تجتر سعيدة حالمة. . .!
وطبيعي أن يتغلب من يدرب أطفاله على ركوب الحيوانات الحديدية وقيادة الوحوش الفولاذية على من يدرب أطفاله على ركوب الحمير والبغال، وقيادة الأغنام والأبقار. . .
وكل ما يحدثه الإنسان في المواد يدل على اتساع مدى نفسه وامتداد خيالها، وأخذها من