للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كما تفنى النمال والنحل، وكل ما لبسته الحياة من غير رُجعى أو مصير أكمل. . .

ولكن الواقع أن ضجة الإنسانية وحدها، وتغير الأرض بها وحدها، وتعقد الدنيا بها وحدها، واطراد نمو الحياة المادية وانكشاف خصائصها بها وحدها، وارتقاب غاية مجهولة منها وحدها. . . هي أمور من الحق بحيث تشغلنا عن سواها وعن شبهات ضآلة الإنسان بالنسبة لله. . . وهي ذاتها البرزخ الذي نعبر عليه تلك الهوة التي بيننا وبين الله!

فعندما ينظر ناظر لظاهر مجموع الناس يخيل إليه أنه لا صلة بين قلوبهم وأفكارهم وبين السماء، وأنهم غير مأبوه لهم من صاحب الوجود. . . وحينئذ تنطلق الاعتقادات الفاسدة والتافهة بالحياة وتنطلق وراءها الغرائز الخطرة، وتوجد (طمأنينة الكفر!) وينظر الإنسان للإنسان على أنه شيء تافه يصح سلبه واستعباده وقتله. . .

ولكن عندما ننظر للحياة الإنسانية من داخل القلب نجد النظر يخلق المنظور خلقاً آخر جليلاً، ويشعر الناظر بأن عين الله راعية وصية على هذا المخلوق. . .

فما أعظم أثر هذا في طمأنينة النفس حتى لو كان هذا باطلاً! إنه يرفع آمال النفس البشرية وأفكارها حتى يجعل منطق الله خالق الطبيعة الهائلة منطقها هي. مع أن الهوة بينها وبين الله سحيقة، إذا استسلم الإنسان للعلم وحده في عبورها لن يتمكن! إذ يجد مكانه في الوجود يكاد يكون لا شيء. . . إذ الأرض ذاتها لا شيء بجوار عظمة الكون، فما بالك بالفرد الضئيل فيها؟ هذا يجعل للنفس ثقة وإحساساً بالعظمة، إذ يجد به الإنسان لنفسه مكاناً ملحوظاً في الوجود حين يجعل علاقته مباشرة بصاحب الوجود. . .

ومن العجائب في ظهور حياة الإنسان وتدرجها، أن حياة التدين فيها سبقت حياة العلوم، فبينت حياة التعزية والثقة على الدين قبل العلم

ولو قد سبق العلم الدين إذاً لكان موقف الإنسان في الحياة موقف ابن الطريق الشريد القادر الفاجر، الذي لم يجد أباً وأماً يأخذ من حنانهما حناناً لنفسه، ويعرف أن قلبيهما منبعان غزيران لصفات الإخلاص والرحمة والحب، بل وجد نفسه مدركاً رشيداً، ذكياً قاسياً، على قارعة الطريق تدافعه زحمته، يعرف جرائم الحياة وجفاءها، وأخلاق الشوارع والأسواق، ولا يعرف روابط الأسرة ومعاملة الأخوة والنبوة ووصايا الأمومة؛ فيكون موقفه فيها موقف قاطع الطريق المسلح بالأدوات والمهارة. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>