حين أستعرض نظام مدينة أو أمة أو إمبراطورية، فأجد ناسها يعيشون في تفاهم وتعاطف ومبادلة منافع، وأجد مرافقها ومبانيها وشوارعها ومصانعها ومعاهدها تقوم في دقة وموازنة وجمال وأمانة كأنها من الطبيعة الموزونة بيد الله. . . أسائل نفسي:
من الذي أقام بناء هذه الحياة الإنسانية في تلك الأمة أو المجموعة على هذه الأوضاع العظيمة؟! ومن الذي سدد جهاد أفرادها جميعاً نحو غايات مشتركة وأهداف موحدة؟
ومن الذي أعطاها تلك الروح الاجتماعية التي تسلك في أعمالها وآمالها مسلك الروح الواحد في الجسم الواحد؟
ومن الذي هذب طباعها ورققها وجملها وصقلها وسار بها شوطاً بعيداً من عيشة الوحشية والتأبد، إلى هذه الإنسية والاجتماع؟
ومن الذي أقام هذه الأسر والعائلات على التراحم وجمع أطفالها ورجالها على الحب؟
إنه لا شك سر النبوات التي نبعت من القلوب الكبيرة التي كانت للإنسانية في مهد نشؤها كالأمومة الرحيمة المضحية المربية المسددة
إن هذا لا شك هو الأساس الأول الذي قامت عليه الحياة الاجتماعية وذهب بناؤها مطرداً في العلو والسموق
فلئن غابت الآن عن الأنظار القصيرة والأفكار المشلولة، فكما تغيب أسس الأبنية العظيمة في باطن الأرض، لا ترى ولا يعرفها إلا الناظرون في الأعماق. . .
ولقد مات الرعيل الأول من الأباء والأمهات، ولكن بقي الأبناء دليلاً متجدداً عليهم. . .
ثم نسأل: أيهما أصلح للحياة؟ أأن يعتقد الإنسان أن الله به حفي، وأن يؤمن بالإنسان فيحتفل لولادته ويقوم لجنازته ويؤثره على نفسه، ويتواضع له ويحترم دمه وعرضه، ويعيش في سجون الأخلاق التي تسمو بالحياة الاجتماعية، وتقلل الخلاف والشقاق وتنمي الحياة، وتحيط الإنسان بجو من سكينة العلم ورقة الفن، وتسخر العلم في خدمته وتخفيف ويلاته، وتضع أمامه أهدافاً مرسومة ومثلاً عليا، وفلسفة يطرد بها الوفاق؛ وبجعل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الرجال الآباء نماذج وقمماً يتطلع إليها. . . أم أن ينظر الإنسان إلى الإنسان كما ينظر للنبات والحيوان. . . فإذا ولد فكجرو الكلاب أو سخل