إلى أكثر من ذلك فتتسامى عن السياسة الذاتية إلى السياسة العامة، وهي سياسة الدفاع عن جميع بلاد اليونان قاطبة. لم يسع إسبرطة أمام هذا الإصدار إلا أن ترضخ فتركت أثينا وشأنها. وقد لامها حلفاؤها وعابوا عليها هذا المسلك فوصفوه بأنه ينم عن الضعف والتخاذل والإهمال، لأنه من غير شك سيساعد أثينا على المضي في طريقها بعد أن رأت إن أكبر الدول اليونانية لا تستطيع أن تمنعها من تحقيق سياستها، فتشجعت ونهضت بعد هذا البعث الجديد وتمكنت من أن تسير قدماً إلى الأمام لتنفيذ سياستها الإمبريالية وهي سياسة التوسع والفتوح.
نجح إذن تيموستوكل في هذه المهمة، وهي إحاطة أثينا بالأسوار والتحصينات، ولكنه لم يهدأ له بال بعد ذلك إذ رأى أن هذه الأعمال الدفاعية لا تحقق الغرض منها إلا إذا أكملت بأعمال أخرى في ميناء بيريه. فيوجه إلى هذا الميناء كل جهوده لاعتقاده الجازم أن هذه الأعمال كلها مرتبطة ببعضها تمام الارتباط، فلا يصلح عمل منه دون أن يتم العمل الآخر، وهو كثيراً ما نادى - على نحو ما رأينا في ما سبق - أن مستقبل أثينا على البحار، لذلك لم يكن من الغريب أن تكون سياسته كلها موجهة نحو البحر، بل مرتكزة على البحر، فالبحر في نظره عماد كل شيء كما قال في تلك العبارة الشهيرة التي أوردناها منذ حين:(أن الأرض الأثينية تعتمد على البحر والمدينة تعتمد على ميناء بيريه). وتنفيذاً لهذه السياسة يعمل على إحاطة ميناء بيريه هي الأخرى بسور، وقد تم ذلك فبلغ طوله عشرة كيلو مترات بعد أن بناه من الأحجار الضخمة التي استخرجها من المحاجر المجاورة. بل ربط تيموستوكل هذا الميناء الجديد بالميناءين المجاورين وهما (زيا) و (موتخيا) وجعلها كلها ميناء واحدة ومدينة واحدة، وشجع الناس على أن يفدوا إليها من الخارج، أي من البلدان القريبة منها، فأقبلوا زرافات ووحداناً، بعد أن رأوا أنفسهم قد أعفتهم هذه المدينة من الضريبة الثقيلة المسماة وهي التي كانت تفرض على كل أجنبي يريد أن يقيم بها، فكثر سكانها وازدحموا ازدحاماً عظيما حتى أصبحت بعد ذلك أهم ميناء في البحر الأبيض المتوسط، واعتبرت قلب الإمبراطورية الأثينية النابض. ففيها يرسو الأسطول وهو عماد الإمبراطورية الأثينية البحرية، ومنها تصدر الصادرات الأثينية وإليها ترد الواردات من الخارج، كالقمح والخشب والمعادن من البلاد المحيطة بالبحر الأسود أو من آسيا الصغرى