ضاقت علىّ الأرض برجها! فخرجت إلى البلاد مرتاداً رجلاً عزيزاً منيع الدار أعوذ به وأنزل عليه، حتى انتهيت إلى بني شيبان بن ثعلبة، فدفعت إلى بيت مشرف بظهر رابية منيعة، وإلى جانبه فرس مربوط ورمح مركوز يلمع سنانه، فنزلت عن فرسي وتقدمت فسلمت على أهل الخباء، فرد على نساء من وراء السجف، يرمقنني من خلل الستور بعيون كعيون أخشاف الظباء! فقالت إحداهن:
اطمئن يا حضري، فقلت: وكيف يطمئن المطلوب أو يأمن المرعوب! وقلما ينجو من السلطان طالبه، والخوف غالبه دون أن يأوي إلى جبل يعصمه، أو معقل يمنعه. فقالت: يا حضري، لقد ترجم لسانك عن قلب صغير وذنب كبير، قد نزلت بفناء بيت لا يضام فيه أحد، ولا يجوع فيه كبد، ما دام لهذا الحي سَبد أو لبَد. هذا بيت الأسود بن قنان، أخواله كلب، وأعمامه شيبان، صعلوك الحي في ماله، وسيدهم في فعاله، لا ينازع ولا يدافع، له الجوار وموقد النار وطلب الثار، وبهذا وصفته أمامة بنت الجلاح الكلبية حيث تقول:
إذا شئت أن تلقي فتى لو وزنته ... بكل مَعَدِّيٍَّ وكل يماني
وفي بهمُ حلماً وجوداً وسؤدداً ... وبأسا فهذا الأسود بن قنان
فقلت: الآن ذهبت عني الوحشة، وسكنت الروعة، فأنَّى لي به؟! قالت: يا جارية، اخرجي فنادي مولاك، فخرجت الجارية فما لبثت إلا هنيهة حتى جاءت وهو معها في جمع من بني عمه، فرأيت غلاماً حسناً قد أخضر شاربه، واختط عارضه، وخشن جانبه. فقال: أي المنعمين علينا أنت؟ فبادرت المرأة فقالت: يا أبا مرهف، هذا رجل نبتْ به أوطانه، وأزعجه سلطانه، وأوحشه زمانه، وقد أحب جوارك، ورغب في ذمتك، وقد ضمِنا له ما يضمنه لمثله مثلك! فقال: بلَّ الله فاك! قال: فأخذ بيدي وجلس وجلست؛ ثم قال: يا بني أبي وذوي رحمي، أشهدكم أن هذا الرجل في ذمتي وجواري، فمن أراده فقد أرادني، ومن كاده