فرضت إسعادها وخيراتها وعلومها، وصار الناس لا يستطيعون منها فراراً بعد ما دخلت عليهم أقطارهم قسراً واقتداراً.
هي قدر لازم لا فكاك منه كأنها الرياح والأمطار والأشعة ومما يؤكد أنها خالدة مؤبدة انتشارها في كل مكان وليست كالمدنيات السالفة الموضعية ذات العصبية القومية. لأنها قامت على العلم الذي لا تتناقض حقائقه بتعدد الأماكن والأجناس، بل تتلاءم وتتوافق بتوافق قوانين الطبيعة الواحدة
وكانت المدنيات السابقة تجارب وجذوراً متشعبة لجذع عظيم هو هذه المدنية الحالية
ولم يحدث في الماضي أن صبغت مدنية الناس جميعاً كما فعلت هذه المدنية، فخضع لها الموحد والوثني والملحد والمؤمن والزنجي والإسكيمي والشرقي والغربي
ولم يحدث أن وجدت ميادين كثيرة مشتركة بين الناس جميعاً كما وجدت ميادين النشاط العلمي والآلي والصناعي والسياسي والأدبي في رحاب هذه المدنية.
ولم يحدث أن اشتبكت مصالح الناس جميعاً كما اشتبكت الآن بفعل السرعة وسهولة الانتقال وتبادل المنافع وتشعب الاحتياجات.
ولم يحدث أن درست ثقافة واحدة في مدارس الأمم جميعاً كما درست هذه الثقافة العصرية.
فأي مكان نجا من سلطان مدنية الزمان؟
أي طريق لم تجس خلاله سيارة؟ وأي جو لم تخفق فيه الطيارة؟ وأي بلد لم يستصبح بنور الكهرباء؟
إن هذه المدنية تحيط بالإنسان في كل أفق من آفاق حياته. وإني استعرض الآن كل ما يحيط بي وأنا أكتب فأجد جميع ما تقع عليه عيني قد اشتركت فيه آلاف العمليات الإنسانية المعقدة. وقد صار إحساسي بها كإحساسي بضرورات حياتي. وأكاد لا أرى شيئاً خالصاً من يد الطبيعة وحدها إلا جسمي. . . وحتى هو لم يسلم من هندسة الحلاق و (رتوشه)!
ويمكنك أن تجرد الأرض مم فعله الإنسان فيها وما عقده وركبه، لتدرك مدى الحياة الأرضية من غيره ومدى العالم الذي أحدثه هو. . . وإذا ألقيت نظرة على شارع في نيويورك أو لندن أو القاهرة فإنه يروعك أن ترى ما في مخازنه ومناظره وآثار الأيدي التي عملت فيه، حتى لا تستطيع بعض الأذهان أن تتخيل الدنيا خالية منه من طول الألفة