(انعدم من جو الغناء ذلك الغث المحدث، وليد الحرب والثورة)
أليس في هذا الكلام مبالغة إذا جرد منها انعكس معناه؟ فإن (جو الغناء) متسع لأكثر من جيد أغاني المجيدين من شعراء اليوم؛ وليس من كلامهم العف كل ما يغني، ولا أوفره؛ ولم ينعدم في الأغاني (ذلك الغث المحدَث) ولا ذكر الدلع والدلال. وقد يوصف يوصف جمال الإنسان بلا تمجن، كما يصوره المثال، وإنما العبرة بأسلوب الوصف. وكم يعبرون عن الشهوات الحسية بلهجة في اللحن وحركة في الغناء، فيأتي تعبيرهم الصوتي الماجن أبلغ من الكلمة الصريحة، ويثير غريزة الجمهور؛ وذكر الخمر والخصر خير من تمثيل الاستخذاء والذل.
والأهم أن تلك العصور كان، من الجهة الفنية، أرقى من غناء اليوم، إذ كان ملائماً لأغانيها، وأصدق بملاءمته تأدية لمعانيها، وأقرب إلى القلوب بصدقه وخلوه من التخليط المشوه للفن. وقد غنوا قصائد وتواشيح، وأدواراً سياسية، وعزفوا بشارف. ذلك عهد مضى عليه ربع قرن، وأصبح الغرب في مصر، وصاحت مصر في الغرب؛ وهي اليوم في عصر الجامعة، ومعاهد الموسيقى، والحاكي، والسنما، والراديو؛ ومع هذا كله فقد صرنا نؤدي الأغاني بخليط من الألحان كثيراً ما يتنافر فيه الترح والمرح، والشرقي والغربي، وبمزيج من أنغام معزف تضارب أنغام حناجر، في الغالب. ذلك بأننا تركنا الشعور والفهم وتبعنا السمع الضال والغريزة الجامحة والتقليد الأعمى. فليست الموازنة بين الماضي وبين هذا الحاضر في مصلحة نتاجه.
احتج، من غير موجب للتغني بالحب حيث قال:(كيف تخلو الأغاني من ذكر الحب، والله سبحانه وتعالى قد بنى الملك عليه وعمر. . . وليس في الوجود عاطفة أبعث للتضحية وأحيا للأمل، وأخلق للنبوغ من هذه العاطفة الكريمة)
ولكن أحداً من الناس نشر نقد له لم يقل بتجريد الأغاني من ذكر الحب، وإنما قالوا ألا يقصر الغناء عليه، وألا يقصر هو على العاشق الذليل البكاء: لأن حبه ليس من تلك (العاطفة الكريمة) في الإنسان السليم من الآفات النفسية والجسمية؛ وهو ضحية الاستهانة به، فبأي الأشياء يضحي بعد الكرامة؟ وأي أمل لميت الأحياء؟ وفي أي ميدان ينبغ راض بالخزي أو معجب بمثاله؟