واحتج للشكوى والاستعطاف بقوله:(لم تخل أغانينا من الشكوى والاستعطاف، فهما في مرآة القلب أبداً؛ ولكنها شكوى الحافظ للعهد، الباقي على الود، وهي ناحية في دمنا نحن المصريين. . . ولقد ألفت أغاني كثيرة في البطولة، والوطنية، والأخلاق. . . ودخل في أناشيد. . . معان جليلة في العزة والاستقلال؛ ولكن الطلبة، والجند، والشعب، لم يرددوا منها كثيراً ولا قليلاً)؛ و (ردد الناس أكثر ما رددوا هذه الشكوى فطغت على بقية الأغاني واتهم الغناء عامة باللين والميوعة)
فكأن اعتراض النقاد على الأغاني من الشكوى والاستعطاف سببه هما في ذاتهما، وإنما المنكر هو ذلك الروح العليل الذي ينفث الذل فيهما، وهو طغيانهما طغياناً يتفشى معه الاستخذاء بالناس؛ فالاحتجاج لهما مناقض لمصلحة المصرين ومصلحة الفن.
وفي كم من الأغاني نجد (شكوى الحافظ للعهد، الباقي على الود)، ونجد استعطاف الإنسان الحر؟ أليس الأغلب أنهما شكوى حيوان أذل من كلب مضروب، واستعطاف هو الكدية الحقيرة؟ فأي الأخلاق هما مثاله! وحتى الأغنية البريئة من هذا العيب الشنيع قد يجرد اللحن والغناء شكواها واستعطافها من كل كرامة.
فالنقاد على حق في اتهامهم (الغناء عامة باللين والميوعة) لما طغى - كما قال بحق - على الأغاني من الشكوى الخانعة المائعة والاستعطاف الذليل، ولغير ذلك من عيوب الأغاني والتلحين والغناء جميعاً. وليس من الصواب أن يقال إن هذا الطغيان سببه ترديد الناس لتلك الشكوى، وإنما طغت الشكوى من الأغاني فجرفهم طوفانها. ولو كان أهل الفن قد انساقوا وراء الشعب لكان صنيعهم تجارة لا فناً كما يزعمون.
أما قوله: الشكوى (في دمنا نحن المصريين)، فهو كلام قد رجح فيه الشعر والإنشاء وعنى ظاهراً من الحال ولم يصب الحقيقة. وحسبنا أن نلاحظ أن هذا الشعب المصري بعينه يتحمس لأبي زيد وعنترة تحمساً يدل على أن سر ميله إلى الأغاني الشاكية الباكية هو غير ضعف قابليته للطرب من غناء المعاني القوية وللتغني بها، إن صح أن هذا الضعف فيه.
إن أغاني البطولة والعزة، والوطنية والاستقلال، إذا أخرجت بطابع التميع والتخنث في ألحانها وفي غنائها وموسيقاها، كان هذا التناقض البين فيها مضحكا إضحاك نشيد مشهور في مصر بهذه السخافة. وقد تعمد إظهار هذا التناقض كلوديس، الممثل الهزلي الفرنسي،