وحول هذه القضية ثارت الخصومة بيني وبينه على صفحات البلاغ حين ظهر ديواني في سنة ١٩٣٤، وهي خصومة مست قلب المازني، وكان من المحتمل أن تكون لها عواقب سود، ولكن الرجل تراجع حين عرف أن غضبه لم يقم على أساس.
وبعد أعوام حدثته بأني انصرفت عن الشعر فحملق في وجهي حملقة الغول وهو يصرخ:(أنت تبت! أنت تبت!)
وكذلك يرى المازني أن الانصراف عن الشعر توبة، وكأنه يجهل أنه أساء إلى وطنه إساءة ستجعله من أهل النار يوم يقوم الحساب، فضياع شاعر مثل المازني ليس إلا نكبة وطنية. لا جزاء الله إلا بما هو له أهل!
ضاع المازني الشاعر، فما مصير المازني الكاتب؟
بدأ المازني حياته النثرية بالطريقة الجاحظية، وهي تقوم على أساس الازدواج، وقد وفى المازني لهذه الطريقة أصدق الوفاء في أمد يزيد على عشر سنين، وكان عهده في رحاب هذه الطريقة أجمل عهوده الأدبية. فقد كان نموذجاً للكاتب الفنان، وكان بناء الجملة على سنان قلمه غاية في المتانة والجمال.
ثم جنى المازني على نفسه بالكتابة اليومية، ولكن كيف؟ يدخل الجريدة فيتحدث ويتحدث ثم يتحدث إلى أن يضيع الوقت وإلى أن تنفذ قواه، وفي آخر لحظة يكتب المقال المطلوب بأي أسلوب، وكذلك صار المازني يكتب كما يتحدث، وبين الكتابة والحديث مراحل طوال.
ثم ماذا؟ ثم ابتدع المازني طريقة جديدة هي كتابة أكثر مقالاته وقت إنشائها بالكتاب، فينشئ المقال على أصوات: طق طق، طق!!
هل فهمتم ما أريد؟
المازني اليوم لا يكتب كما نكتب بقلم ومداد وقرطاس، ليستطيع المحو والإثبات كما نستطيع، وإنما تدور أنامله على الكتاب بوحي من رأسه الموهوب؛ فيخرج المقال وهو كلام لا إنشاء.
فمن هاله أن يرى بناء الجملة عند المازني الجديد يخالف بناء الجملة عند المازني القديم فليذكر هذا التاريخ من حياة هذا الفنان.