لا يعني بتمحيص المشاكل السياسية وتحقيقها عنايته بأن يتولى قيادة الشئون العامة، فلم يعد لزاما عليه أن يتقصى الحقيقة كشيء واجب لذاته. أما الصحافة، فهي من ناحية أخرى لا تشغل منصباً معيناً، وهي تفصح عما تنصرف إليه من مراميها بوسيلة واحدة هي وسيلة المنطق والحوار والجدل. وإذ كانت غير مقيدة بما تقيدت به السلطتان الإدارية والتنفيذية من الواجبات فقد جاز لها، بل ووجب عليها أن تخطو بإرادة حرة فوق هام تلك الأبحاث التي يتهيبها رجل السياسة ولا يجترئ على لمسها. . . وإذا كان واجب الحكومة أن تعامل الحكومات الأخرى باحترام شكلي وإن خبثت عناصرها واسودت صفحات أعمالها، فقد كان من حسن حظ الصحافة أنها لم تخضع لمثل هذه القيود، وأن يتهيأ لها من الأمر - وقد اجتمع الساسة يتبادلون عبارات الود ويشربون نخب المحبة والصداقة - أن تكشف الغطاء عن لب الحقيقة من أمرهم فيبرح الخفاء، وأن تعلن عن معايب الحاكم ومقاذره وإن له سطوة الحكم وبيده عصا السلطان.
فواجب الصحفي على هذا الوضع هو عين واجب المؤرخ، كلاهما يتقصى الحقيقة ويعلو اعتبارها لديه فوق كل اعتبار. وكلاهما يبذل قصارى جهده في تحقيق ما يعرضه على قرائه. فلا يعرض عليهم ما تنصرف إليه رغبة الحكومة مهما كان شأنها ومهما عظم سلطانها، بل الحق والحق الصراح. فإذا ما حاولنا إذن أن نخضع الصحفي والسياسي لقيود واحدة ولقواعد واحدة لكان معنى ذلك أن نجمع بين المتناقضين وأن نخلط بين شيئين اختلفا اختلافاً جوهرياً. وهو من الوجهة النظرية من الخطأ وسقم الرأي كشيء لم يسمع به أصلاً وغير متوقع الحصول من الوجهة الفعلية. فالصحافة لا تطمح - كما يقول (اللورد دربي) - في أن تظفر بسلطان الرجل السياسي. ولكنها تحتفظ لنفسها بهذا الاعتبار الذي طاب (اللورد دربي) أن يزعمه لها - ليعلنها بهذا الحكم الاستبدادي الجريء الصادر عن مزاج دموي - لأمور أكثر احتراماً وأعظم تقديراً من مجرد السلطان الآمر والقوة الغاشمة. . . ومع ذلك فنحن عندما ناقشنا السياسة الفرنسية لم تبدر منا بادرة قبيحة ولم نضرب على تلك النغمة الآثمة التي صاغ بها اللورد دربي خطبته. فنحن لم نقل أصلاً إن حكومات فرنسا تعاقبت في حلقات من اختلاس المنصب واغتصاب السلطان - سواء كان من هذا النوع أو من الآخر - في الستين سنة الأخيرة. فنكون إذن قد ناقضنا أنفسنا وقذفنا جيراننا.