وما الإنسان بدون يقظة للمعنى الفائق والروح السامي الذي في حياته إلا جسد يختلج ويضطرب في ذهول وبلادة، ويحيا هكذا حياة مغناطيسية آلية
ولكي ندرك جرائر التاريخ على العقول أثره في تدليس الحاضر وإفساده وتزوير النفوس سأعيد عليك حديث صورة لا تجهلها عن طرق دراسته على ألسنة العجائز وفي المدارس ومجالس القصص:
يتفتح عقل الناشئ منا فتلقنه عجائز بيته وشيوخ قومه ومعلمو مدرسته تاريخ قوميته وتاريخ الإنسانية بأغلاطه ونقائضه ومحاولات العصور القاصرة في فهم الحياة وجهاد الإنسانية في شق طريقها الأول بين الصخور والمتاهات والعقبات. فما يكاد عقل الناشيء يصل إلى دور الحكم والموازنة حتى يكون قد تطبع بما وعى وأصابه ثقل التخمة وحيرة الامتلاء والتبلبل
ذلك لأن التاريخ لا يدرس على أنه محاولات أولية من الإنسان فيها أخطاء كثيرة؛ فيجب الحكم عليها حكم دور الرشد على دور القصور؛ ولكنه يدرس وعليه طابع التقديس والإعجاب بالأقدمين والاعتزاز بهم في مغالاة وتعصب، وبخاصة تاريخ القوميات والجنسيات
وكان من كبرى نتائج ذلك أن عاش كثير من الماضي السيئ في الحاضر. بل وجدنا جماعات تفر من الحاضر لتعيش في الماضي وترى انه كان الحياة. .! وتمدح الناس بما فعلت الجدود وقالوا إنا على آثارهم مقتدون
فلم يفتح أبناء العصور المختلفة عيونهم على حياتهم في زمانهم بل فتحوها على الماضي وعاشوا به في الحاضر، وظهر اثر ذلك في الافتتان بهوامش الحياة والعكوف على دراسة سطوحها وترك دراسة أصول الحياة وعلومها الطبيعية والتجريبية التي تبقى لها نتائج دائمة تسلم إلى نتائج أخرى في سلم الترقي والتطور
وقد لاقى اكثر الناس الحياة بطباع مدلسة ليست بنت زمانها، وإنما هي بنت الماضي السحيق، وحملوا معهم في رحلة العصور خرافات ووثنيات وسخافات احتفظوا بها حتى في القرن العشرين، ووضعوها حواجز وعوائق في طريق الحياة الحديثة ذات المعجزات