وقد تحدث في هذه الدالية، كما تحدث في الحائية، عن شوقه إلى مصر ولياليها البيض بروح لم يتحدث بمثله أحد من الشعراء الذين سبقوه إلى الحديث عن معاهد الوجد بهذه البلاد
ثم يقضي القَدَر في مصير البارودي بما قضاه، فيشترك في الثورة العرابية، وتقع أحداث وخطوب تنقل وطنه من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود، ويلتفت فيرى دنياه خلت من الرمح والسيف، ولم يبق إلا أن يعيش في جحيم النفي والاغتراب بلا ظفر ولا ناب
لم يكن للبارودي نية في الثورة العرابية، فنحن نرجح أنه اشترك فيها بلا قلب، ولو كان من جناتها لصار التاريخ غير التاريخ فقد كان من مغاوير الأبطال، وكان يستطيع أن يرد المكروه عن بلاده لو آمن بما آمن به العرابيون، وكان يستطيع على الأقل أن يظفر بالاستشهاد في ميادين الجهاد
ومعنى هذا الكلام أن البارودي كان يملك التنصل من تبعة الثورة العرابية ليسلم من التأذي بعواقبها السود، ولكن فتوته أبت عليه أن يقف ذلك الموقف البغيض. فشارك إخوانه في البأساء، واستسلم لحكم القضاء، في سبيل الوفاء
نُفيَ البارودي إلى سرنديب وهو في يأس من المعاد. فقد كانت الظروف الدولية تنطق بأن لا أمل في تغيير مركز مصر السياسي، وكانت الأخبار توافيه بأن مصر ضعيفة الرجاء في زحزحة الاحتلال.
وفي تلك المدة كانت أحوال أهله في مصر تنتقل من ظلمات إلى ظلمات لغياب راعيها الأمين، فكان روحه ينتقل من جحيم إلى جحيم.
هل رأيت الأسد المأثور في حديقة الحيوان، ولاحظت أنه يزأر من وقت إلى وقت ليسري عن نفسه بالزئير مع اليأس من الحرية؟
كذلك كان البارودي، فما ترك الشعر الحماسي في أعسر أوقات الضيق والكرب؛ ولا سمحت نفسه بأن يتوب من الغطرسة والاستعلاء
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش ... بها بطلاً يحمي الحقيقة شدُّهُ
وإني امرؤ لا أستكين لصولة ... وإن شد ساقي دون مسعاي قده
ويطول بلاء البارودي في منفاه، ويستيئس من الأمجاد الحربية، فيقبل على الأمجاد الأدبية