للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ما يريد أن يكونه، أو ما تقضي إرادته أن يستقيم عليه، لأن العناصر المادية تجري تأثيرها على جسده بلا انقطاع. فهذا الكائن الإنساني خاضع لمؤثرات المناخ والبيئة لا بجسمه فحسب، بل وبروحه أيضاً، وما يتأثر به الجسد تتأثر به النفس. وما دام الأمر كذلك - في زعمهم - فواجب أن ننظر إلى النفس وخلجاتها من وجهة نظر علمية خالصة، وذلك بأن تخضع خلجات النفس وبادراتها ولمعاتها إلى التعليل العلمي الصرف

هذه النزعة لم تكن غير صدى لسيطرة النزعة العلمية والتحليلية في القرن التاسع عشر في فرنسا وإنجلترا، فوجدت نظريات الوراثة والبيئة مجالاتها الواسعة فيما تخرجه أقلام الكتاب القصاصين والمسرحيين، وهكذا تمت غلبة المحسوس على غير المحسوس في كل شيء، وأصبح علم النفس خاضعاً لآلية (المعمل) يحلل ويجزئ، وما يحلل ويجزئ غير مظاهر المادة. وسيطرت الواقعية على ألوان الأدب والفنون، وتبعتها فيها (الطبعية) وهي لون متطرف من الواقعية

ماذا كان يعمد إليه الكتاب والواقعيون والطبعيون وهم يعالجون في رواياتهم تحليل شخصيات ملقحة بالغموض تنتابها تعقيدات نفسية؟

وقد يحسب القارئ أن هذه الحالات النفسية المعقدة قد انتهى زمانها بعد أن أخذ العلم يحلل كل شيء ويعلل. لا شيء من هذا لم يحدث، لأن هذه الحالات عريقة في النفس البشرية التي لم تتغير ولن تتغير، وما كانت هذه النزعة العلمية التحليلية لتحجز الكتاب عن تقديم هذه المخلوقات المعقدة التي تبدو كأنها ظاهرات عجيبة، نظراً إلى أنها تعيش بيننا ويُحس بها، ولأن القصة والمسرحية من مجالات تسجيل النفس على اختلاف ضروبها وتعقد حالاتها. للمناخ والبيئة تأثير لا ينكر أحياناً على بعث كوامن النفس واصطخابها، فهما عاملان يساعدان أحياناً على إحياء التناقض في الطبع الإنساني الواحد، ويمهدان لتشقيقه وفتح فجوات في كيانه. ولا شك في أن المؤثرات التي تنزل بالجسم وتنال منه، من شأنها أن تشق للنفس مسارب تنقلت منها في وثبات لا يمكن للمنطق الخالص أن يعللها ويفسرها.

نعيد سؤالنا فنقول: ماذا كان يعمل هؤلاء الكتاب، كتاب الواقعية (والمعمل) إذا عرضت لهم تلك التعقيدات النفسية؟

لم يكن يعمدون إلى الصمت ولا شك. لقد كان أسلافهم الاتباعيون والرومانسيون - وهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>