ولكن بدلاً من أن نرى (دردير أفندي) يهوى بذراعيه يعتق المعوقة المستسلمة ويروي ظمأه حسه منها، إذ به يأخذ بأطراف حديث لا علاقة له بجوهر الموضوع القائم بينهما:
حديث خيالي عن الجمال وقداسته؛ والحرير الأبيض - شبيه خدها الناعم - ولطيف ملمسه، وكيف تنتهك حرمة نصاعته إذا تأتي أن يدب عليه ذكر خنفس أسود مهما كان يحمل هذا الخنفس على ظهره من كريم الجوهر الغالي؛ ثم لا نلبث أن نرى (دردير أفندي) يحطم الكأس التي في يده ويخرج الأوراق المالية من جيبه، وينهال عليها دعكا وتمزيقاً في ثورة صاخبة، يشتبك فيها الضحك بالبكاء؛ فلا تلبث وحيدة أن تنهال عليه بالشتائم والضرب وتطرده شر طردة لتستلقي بعد ذلك على وجهها وتشتهي بالبكاء في غيظ ثائر!
الآن نتساءل كيف بدرت هذه البادرة الغريبة من الرجل وليس فيما سبق منه ما يمهد لها أو يبعثها؟ كيف استقيظت هذه الخالجة الطارئة لتبدو في نطحة نفسية عجيبة؟
قد يقول قائل إنها الخمر التي أفقدته رأسه وأسلمته إلى هذا الهذيان؛ ولكننا نقول - دفعاً لهذا التعليل - إن الرجل متمرس بالخمر يصمد لحمياها كما تشير إلى ذلك حياته السابقة. وفوق هذا فإنه لم يحتس من أخف أنواعها - وهي الشمبانيا - غير أربع كاسات!!
(قد يقول قائل - والقائل بهذا أحذق من الأول -: إن الرجل لابد أن يكون عنيناً هامد الحس فافتعل هذه الفعلة يفتدي بها فضيحة، وفي دفع هذا التعليل نقول إن المؤلف لم يشر إشارة صريحة أو غير صريحة إلى هذا الأمر.
إذن ماذا!
فلنحاول أن نرد دردير أفندي هذا إلى حقيقته
(دردير أفندي) هو - كما رسمه المؤلف - واحد من ذلك الصنف الإنساني الذي أعرفه باسم المفلس الطروب. هو الرجل فقير بجيبه غني بنفسه، حبته الطبيعة القلب الكبير والحس المرهف، ولكنها لم تحبه الحظ المادي الذي يجعل حياته تستقيم على ما تقتضيه كرامة حسه وقلبه. هو جواب ذليل لآفاق الترف والنعيم لا يأخذ منها غير ما يؤذن بأخذه لكلب مدلل أو قط مرموق. بل هو أدنى مرتبة من ذلك. إنه مسخ يتفكه بنفسه كما يتفكه به الناس من أهل اليسار وفي مقدمتهم معشوقته (وحيدة). وأعجب من هذا أنه يحس بكل شيء فيه، فهو الضحكة الذي يعي موضع الفكاهة والسخرية فيه، وهو الصعلوك المؤمن