أغربها من عمة. ما اشد شذوذها وغرابة أطوارها. هو يتذكرها جيدا، حتى لكأنها الآن ماثلة أمام عينيه - عجوز بكر هيفاء نحيلة. لها شعر اشعث، اسود فاحم، وعينان دعجاوان شاردتان ذاهلتان. كان يقول عنها أهل القرية إنها قد أصابها الخبل من حادث غرامي لم توفق فيه. . . هو يتذكر كيف كانت تحفظ جيدا بعض أساطير فرنسية جريا على عادة كانت في ذلك الحين متبعة في مدرسة ليلية من طراز قديم، وكيف كانت تكررها مرة بعد أخرى. ويذكر أيضا كيف كانت تضرب على البيان لحن (بولوني أو كينيكسي). لقد كانت تلك الأغنية تبدو مخيفة غريبة، لأن السيدة العجوز كانت تغنيها من غير عاطفة ولا شعور
أوه - تلك الأغنية (بولوني أو كينيسكي). . . (هي) المعهودة أيضاً كانت تحسن غنائها وعزفها على البيان.
والآن أخذت النجوم في السماء تبعث بصيصا ضئيلا من نور خافت وتتلألأ تلألؤاً سحرياً لا تدركه الأفهام.
وطفقت الجنادب تسبح بصريرتها تسبيحتها الواهنة الوانية، لا تلبث تفتر حتى تهتاج من جديد في هدوء المساء وسكون الطبيعة. . . هناك بيان عتيق. هناك في تلك الغرفة الداخلية. النوافذ مفتوحة لولا أن (هي) المعهودة تدخل الآن في الغرفة، خفيفة الظل كالطيف وتعزف عليها، تمس مفاتيحها العتيقة المغبرة. . . ومن ثم يذهبان معا إلى هناك. . . إلى هناك باستقامة واحدة. . . يمران من تلك الطريق الضيقة بين الجويدار الكثيف. إلى اين. . . إلى بعيد، حيث الضوء ينبعث في الأفق الغربي.
كبح الكابتن ايفانيش جماح أفكاره وابتسم قائلا بصوت مرتفع (لقد ذهب الخيال معي إلى بعيد. . .)
كانت الجنادب تصدح بإنشودتها في نسيم المساء الهادئ البليل ومن البستان يعبق شذا الأرقطيون المحمل بالطل. وأريج زهرة الفجر ورائحة القراص المخضل المنعشة، فتختلط كل هذه الأرواح العطرة في الفضاء وتتجه شطر الأنوف كأنما تنتوي نية أو تبغي بغية. . . هذه العطور الزكية ذكرته بمساء كان قد رجع فيه من المدينة في ساعة متأخرة؛ وكيف ظل يفكر (عنها) يخدع نفسه ويمنيها بآمال السعادة والهناء. . .
ما كنت ترى في القرية نافذة تشع، ساعة ساق عربته إلى أعالي الرابية. كل شيء تحت