تحليق الطائرات في الجو كأنه يريد أن يدل الأعداء على مكاننا، أو بمعنى آخر كأنه يريد القضاء على نفسه وعلينا جميعاً.
ولست أدري هل صدَّق الناس قول ذلك الخبير العجيب أم لم يصدقوه، فان واحداً منهم لم يعترض على ما قال ولم يحاول مناقشته، ولكني لا أشك لحظة في أن جارتي العجوز قد آمنت بكل كلمة من كلماته، وإلا فما بالها تكتم أنفاسها ذلك الكتم الشديد الذي جعلها في آخر الأمر تعلن إفلاسها في تلك المحاولة العسيرة قائلة: يفعل الله ما يشاء. . . إنني أكاد أموت اختناقاً.
ثم جازفت وعادت سيرتها الأولى في استنشاق الهواء ونفثه بالكيفية المعتادة
وعند مدخل المخبأ مع بعض اللاجئين فراراً من الجو الخانق في داخله كان بيننا جندي من أهالي الصعيد يظهر من لهجته الجافة أنه لم يتلق أي نصيب من التعليم أو التهذيب.
ومما يدل على حاجته الشديدة إلى دروس في الذوق أنه اختار هذه المناسبة ليحدثنا عن جماعة لجئوا إلى مخبأ في بلد من البلاد المنكوبة بالغارات فأصيب ذلك المخبأ وهم فيه بقنبلة مباشرة نسفته نسفاً وجعلت من فيه أشلاء لا يعرف فيها القدم من العنق ولا المعصم من العامود الفقري!
وفي أثناء حديثه ظهرت أنوار المصابيح الكاشفة منعكسة على السحاب فأراد أحدنا أن ينتهز فرصة ظهورها ليحول التفاتنا إلى غير ذلك الحديث المقلق للراحة حديث الجندي اللبق! فقال وهو يشير بسبابته إلى حيث تلك الأنوار:
- انظروا! هاهي الأنوار الكاشفة قد بدأت عملها
ولكنه ما كاد يفعل حتى انقض الجندي على ذراعه الممدودة في الفضاء وإذا به يجذبها في شدة وعنف قائلاً في غضب ليس بعده غضب:
- أأنت مجنون يا هذا؟ أتريد أن ترى الطيارات ذراعك الممدود وسبابتك الموجهة إليها فتعرف مكاننا ولا تتركنا إلا أشلاء لا يعرف فيها القدم من العنق ولا المعصم من العامود الفقري كما حدث في. . .
واستأنف حديثه كما بدأه. . .
وردد الفضاء صوت انفجار أول قنبلة مضادة للطائرات، ثم تلاه أصوات متلاحقة لقنابل