اختلف المتشرعون الحديثون في أهمية الدور الذي يقوم به المجنون في المجتمع الإنساني وما يتركه من أثر قوي أو ضعيف فيه، ولكنهم أقروا - وإن اختلفوا في الاجتهاد - مبدأ واحداً هو أن لا تبعة على المجنون وأنه معفى من العقوبة.
وماذا يراد بالجنون؟ لقد عرفه الأستاذ (مرسيه بأنه (اختلال في أي عنصر من عناصر القوى العقلية؛ وقد يكون هذا الاختلال تشويهاً أو توقفاً في النمو أو انحلالاً والتواء في عنصر من تلك العناصر) مما يجعل (الفرد غريباً عن الوسط الذي يعيش فيه، وقد يصطدم اصطداماً يضر به وبالمجموع معاً دون أن يدرك عاقبة عمله). ويقول الأستاذ (مرسيه) أيضاً: (إن أكثر حالات الجنون سببها تسمم بطيء يؤدي إلى انحلال العرى بين المراكز العليا والمراكز السفلى، ثم يؤدي إلى انحلال العناصر التي تكون ذلك المركز) وقد عرفت الشريعة المجنون (بالغرد الذي خرج عن قواه العقلية فلا يصحو إلا في فترات نادرة أو لا يصحوا أبداً). وإذا كانت هذه وضيعة المجنون المحزنة وعقليته القاصرة، فكيف أجاز المجتمع البشري لنفسه أخذه بالتبعة والحكم عليه بالعقوبة؟!. . .
كان كثير من المجتمعات القديمة والحديثة، تأخذ المجنون بالتبعة والعقوبة. ففي القرن الثامن عشر أصدر بعض قضاة فرنسا أحكاماً مختلفة على بعض المجانين، فأثارت هذه الأحكام حفيظة نواب مجلس الأمة، واحتفظ هذا المجلس، بما له من سلطة تشريعية، بتخفيف هذه العقوبة أو إلغائها، ولكنهم أقروا مبدأ التبعة والعقوبة في حالة جريمة يرتكبها المجنون تتناول صاحب الجلالة أو أمراء الأسرة المالكة أو الرئيس الأول أو غيرهم من الزعماء كبار القادة.
والشريعة الصينية تميل بعض الميل إلى تخفيف التبعة عن المجنون وتعديل عقابه. فالجريمة التي تستوجب الإعدام يستعاض عنها بالسجن والتصفيد بالحديد عند عفو أهل القتيل عنه، وإذا قدر للمجنون أن يجرح أباه، فعلى هذا أن يبعث برسالة خاصة إلى صاحب الجلالة يتوسل فيها أن يعطف على ولده، ويعفو عن خطيئته ويغفر له ذلته؛ أما إذا قتل أباه فيؤخذ بالعقوبة وبأشد ما تكون قسوة وعنفاً حيث تقطع أوصاله وتحرق حتى ولو