للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

- إنما تجللت بالسواد حداداً عليك. ألا تذكر أنني كنت أحبك حباً هو الغاية في الكرم، لأنه حب القوي للضعيف؟ ألا تذكر أني كنت أقاوم العواصف والزوابع لأقي خدودك ذلة الالتصاق بالأرض؟ ألا تعرف أنني أعني لفراقك كروباً لا تطاق؟

قال الورق:

(أتحبني إلى هذا الحد، أيها الدوح؟)

فتأوه الدوح ثم أجاب:

(لا أحبك لأنك ورق، فأنت تعرف أني صبرت على تقلب الأوراق أربعين عاماً أو تزيد، ولن أموت يوم أموت بسبب تقلب الأوراق - وإنما أحبك لأنني أنشأتك كما يحب الله هذا الوجود، فأنت بعض ما صنع دمي أيها الورق، ولن تعيش بعد فراقي إلا بفضل ما سكبت في عروقك من الدم النفيس، وقد حل عليك غضبي، فلا بقاء لك بعد اليوم. . . وهل تستطيع أن تطبّ لما صنعت بنفسك أيها الورق الساقط؟ لقد دعوتك إلى الترفق بمصيرك فلم تسمع، ومن أجل غفلتك لبست عليك ثوب الحداد، ولم استغرب من فرحك بمصافحة الأرض، فأنم أعرف أنه لا يرحب بالاستعلاء غير الأقوياء، كما أعرف أن الأم لا ترحم من أبنائها غير الضعفاء)

قال الورق:

(وبأي حق تستطيل علي، أيها الدوح، وأنت أسود مظلم، لا ترَجى لك صحوة ولا معاد؟)

قال الدوح:

(ذلك سواد الشباب، يا أحمق، وليس سواد الحداد، ولن تقيم الحياة لدلالك أي ميزان، وهل تطول حياتك حتى ترى ازدهائي بالورق الجديد في الهوى الجديد؟ إن الدم الذي سوّاك، سيسوي ورقاً سواك، وسأعبث هذا العبث بالأوراق إلى أن أبلغ الثمانين أو التسعين!)

قال الورق:

(خذني إليك، أيها الدوح، فقد اشتقت إلى ساعدك القويّ المتين)

فأجاب الدوح:

(تعال إلي، إن استطعت، أيها الورق الساقط، فأنا لا أملك البعث كما أملك الإنشاء، وهل أملك مساماة صاحب العزة والجبروت؟)

<<  <  ج:
ص:  >  >>