للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وتكلف الورق ما لا يطيق ليرجع إلى الدوح من جديد، ولكنه عجز عن تحقيق ما يريد، وتلك نهاية من يجهل السر في تمتعه بشرف الوجود، والشرف معناه الارتفاع، وقد انحط الورق بسقوطه على الأرض، فأمسى وهو ضعيف مَهين.

ثم قال الدوح:

- لن نلتقي بعد اليوم، أيها الورق الساقط، وكيف نلتقي وأنا أجد عناءً في التعرف إلى هويتك؟ وهل أراك إلا وهماً يصوره الرفات المسحوق، مع قرب العهد بالفراق؟

فأجاب الورق:

- ستجدني في الربيع المقبل

قال الدوح:

- سأجد في الربيع المقبل ورقاً غيرك

قال الورق:

- كنت أنتظر أن يكون في سخطك عليّ ما يزهدك في جميع الأوراق

فصاح الدوح:

- كان ذلك لو أني أردت الانتفاع بالتجارب، والانتفاع بالتجارب يدل على العقل، ولكنه يشهد بضعف الحيوية، والخير أن نواجه الحياة في كل يوم بأحلام الناشئين، لا بعقول الكهول، لتبدو لنا الحياة بكراً في كل لحظة، كما تبدو الغابة المؤذنة بالوحشة والأنس في كل حين. ولو أني اكتفيت بما جربت من أخلاق الورق لكان من المستحيل أن أراك، بعد أن عرفت ما عرفت من شمائل سواك.

قال الورق:

- وأستطيع أنا أيضاً أن أغفل الانتفاع بالتجارب وأرجع إليك في الربيع المقبل

فضحك الدوح وقال:

- وهل كانت لك معي تجارب أيها الورق؟ هل رأيت مني ما يعاب حتى تزعم أنك فارقتني عن عتاب يمحوه التفضل بالإعتاب؟ أنا الذي أنشأك، وأنا الذي رباك، وأنا الذي أوحي إليك معاني الشوق إلى الندى والضياء. . . أنت لم تفارقني لأني جفوتك أو أسأت إليك، وإنما فارقتني لأنك ضعفت عن صحبتي، كما يضعف السحاب عن مصاحبة الجبال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>