وكنت فتي مصرياً لم يسمع مثل هذا الحوار بين الورق والدوح، فمصر الوفية لا تشهد انحلال الورق عن الدوح في خريف أو شتاء بغض النظر عن الأشجار المجلوبة من بلاد لا تعرف خلائق وادي النيل.
قال الفتى المصري:
وتسمعت ما يقول الدوح بعد ذهاب الورق فوعيت هذه الكلمات:
- إلى أين ذهبت أيها الورق، وكنت الشاهد على أن الضعف من عناصر الجمال؟ إلى أين ذهبت وكان عطفي عليك دليلاً على أني من الأقوياء؟ إلى أين ذهبت وبفضلك سمت تغريد الحمائم والبلابل والعنادل. ولم أر بعد ذهابك غير وقر الجليد في (أعوام) الشتاء، وكل يوم في الشتاء بعام أو عامين لمن يعيش بلا أليف؟
ثم سمعت الدوح يقول:
- لو كنت أملك من أمري ما يريد الهوى لخلعت العذار في البحث عن الورق الذاهب، ولكن الطبيعة التي أمدتني بالقوة قيدتني بالوقار؛ فأنا جاثم في مكاني، وإن كان هواي في بلدٍ بعيد بعيد، وآه ثم آه من المراعاة لما يوجب التغافل عن الهوى المشبوب!
وسمعته يقول:
- سقط عني الورق، لأنه ضعف عن مصاحبتي في أيام الشدائد؛ وهل يطالَب الضعيف بما لا يطيق؟ فما عتبي عليه وهو أضعف من أن يقاسمني المصاعب في أيام الشتاء؟ وهل يتوهج الجمال إلا في أوقات اللين والصفاء؟
ثم سمعت الدوح يقول:
(ألا يمكن اتهامي بإرغام الورق على أن يصير إلى ما صار إليه؟ كان في مقدوري أن أضاعف له الكمية المبذولة من دمي، ولكنني جهلت الواجب فارتضيت أن يعيش في الخريف بمثل ما كان يعيش في الربيع. ولو أني ضاعفت له الدفء لكان من الممكن أن فكر في حفظ الجميل، والدنيا أخذ وعطاء، ولو كره الأوفياء)
قال الفتى المصري وهو يحاور قلبه بعد سماع ذلك الاعتراف:
لقد نطق الدوح بالقول الفصل، وأجاب عن هذا السؤال: (ما الذي يمنع من أن نعيش كما