ولعل الأمر فيما ينزل فيه الوحي وفيما لا ينزل، وفيما يجتهد فيه الرسول وفيما لا يجتهد راجع إلى الفصل بين الشئون التي تتعلق بأساس الدعوة، أو بالجانب الخلقي، أو بالعبادة، وبين ما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأزمنة، والأشخاص، وقد حدد الفقهاء المجتهدون بذلك مواضع الاجتهاد ومواضع النص
نستطيع بعد هذا أن نستخلص للنبي صلى الله عليه وسلم شخصيات متعددة: شخصية الرسول، وشخصية الإمام العام، وشخصية المفتي، وشخصية القاضي
فهو بشخصية الرسول مبلغ عن الله لا يخرج فيما أوحى إليه عن حدود ما أمر به أو نهى عنه، والمسلمون مكلفون به كما تلقوه عنه في عمومه أو في خصوصه، وفي دوامه أو توقيته؛ وهذا يغلب فيما هو من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، ولا يعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقيهاً، وإنما هو أعلى شأناً وأجل مكانة من الفقيه
وهو بشخصية الإمام الأعظم رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم يعمل على تركيز أمته، وطبعها بطابع تتميز به عن سائر الأمم، ويلحق بذلك كل ما ورد عنه مما يتعلق باللباس والأزياء والتشبه بقوم ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وما إلى ذلك مما لا يمس ناحية العقيدة، ولا يعقل فيه معنى التعبد؛ وإنما هو في الشئون الاجتماعية البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال، وينزع إليها الزعماء والقادة في القديم والحديث، والأمر فيها راجع إلى ما تراه الأمم، وتقدر فيه قوميتها ومصلحتها وسيادتها
وهو بشخصية المفتي إما مجيب بلسان الوحي فليس له اجتهاد في ذلك إلا في تطبيق النص على جزئيات الحوادث، وإما فقيه يجتهد ويقدر ويلاحظ أحوال السائلين فيجيبهم بما يراه كما يفعل سائر المجتهدين وبالطرق التي يألفها الناس في استنباط المجهولات، وقد علم له من هذا النوع كثير
وهو بشخصية القاضي حكم بين المتخاصمين يسمع دعاواهم، ويتعرف الحق بما يسمع من شهادة الشهود وما يرى من وجوه التثبت، ويقدر ظروف القضية وأحوال المتقاضين كما يفعل سائر القضاة، وأحكامه في هذه الدائرة لا عموم لها في الأشخاص ولا في الأحوال كما يقول علماء الأصول، فليس لها صفة التشريع العام
هذه شخصيات أربع صارت إليه صلى الله عليه وسلم أثراً من آثار تلك الهجرة الميمونة.