قال ابن اسحق عند كلامه على استجابة الأنصار لدعوة النبي في بيعة العقبة الأولى:(وكان مما صنع الله لهم به من الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم إن نبياً مبعوث الآن، قد أظل زمانه نتبعه فنقلتكم معه قتل عاد وأرم. فلما كلم رسول الله (ص) أولئك النفر دعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا، والله انه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام)
قد يكون تصوير حالة المدينة السياسية قبيل الهجرة أبلغ من تصوير الحال الدينية في فهم قبول الأنصار دعوة النبي والتزامهم الدفاع عنه ببلدهم. لقد كانت الحياة العامة بالمدينة مضطربة أشد الاضطراب من جراء حرب الأوس والخزرج التي سببها ما كان بين الفريقين من دماء وثارات. وكانت الغلبة بوجه عام في تلك الحرب للخزرج على الأوس، حتى لقد همت الأوس حوالي السنة العاشرة قبل الهجرة أن تجلو عن المدينة جملة، وأخذت تفاوض قريشاً في أن تأذن لها بالنزول عليها بمكة، ولكن قريشاً كانت أحرص من أن تأذن بذلك، فلما طلبت إليها الأوس أن تحالفها على الخزرج أبت أن تتورط في شيء من ذلك أيضاً. فعادت الأوس تلتمس الحلف من يهود يثرب وخاصة قريظة والنضير. وكان اليهود قد وقفوا من تلك الحرب موقف الحياد المطلق، فملا بلغ الأمر الخزرج أرسلت إلى اليهود تحذرهم عاقبة هذا الحلف إن تم، فلما أكد اليهود أنهم غير محالفي الأوس عادت الخزرج تطلب منهم رهناً أربعين غلاماً من غلمانهم يكونون بأيديهم ضماناً لهذا الحياد. فلم يسع اليهود ألا أن يسلموا إليهم الضمان الذي طلبوا. ولكن الخزرج كانت قد قدمت إلى ارض قريظة والنضير وكانت أغنى بقاع يثرب، فأقبلت تتجنى على اليهود وتخير قريظة والنضير بين أمرين كلاهما شر: فإما أن يجلوا عن يثرب وينزلوا لهم عن أرضهم، وإما أن تقتل غلمانهم. فلما رأت اليهود أن الخزرج قد لجت في طغيانها، وان حيادها لن يجر إليها خيراً، عند ذلك خرجت من حيادها وحالفت الأوس صراحة، فقتلت الخزرج الغلمان وعقدت حلفاً مع القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة قبيلة بني قينقاع وبذلك استحالت يثرب عسكرين تشحذ فيهما السيوف وتراش النبال استعداد للواقعة الفاصلة.