للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقد وقعدت الواقعة الفاصلة في يوم بعاث الذي كان قبيل الهجرة بنحو خمسين سنين. في ذلك اليوم أديل للأوس وحلفائهم من الخزرج وحلفائهم، وقتل من الفريقين يومئذ عدد كبير من سادات الناس وأشرافهم. جاء في صحيح البخاري عن عائشة: (كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله (صلعم) في دخولهم في الإسلام، فقدم رسول الله صلعم وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم) ويفسر السمهودي هذا الحديث بقوله (ومعناه انه قتل فيه من أكابرهم من كان لا يؤمن أن يتكبر، ويأنف أن يدخل في الإسلام) إلى أن يقول (وقد كان بقي معهم من هذا النمط عبد الله بن أبي بن سلول. . . وكذلك أبو عامر الراهب. . . فشقيا بشرفهما)

ورأى أهل يثرب غداة يوم بعاث أن الحرب مهلكة النفوس متلفة الأموال، وأنها يشقى بها الغالب والمغلوب جميعاً، وأنه أولى بهم أن يقيموا بيثرب حكومة تزع القوى وتأخذ بناصر الضعيف. وكان عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي قد رأى غدر قومه في الحرب فلم يخض غمارها معهم وامتنع من قتل من كان بيده من غلمان يهود، ولذلك اتجهت إليه أنظار القوم وهموا أن يملكوه على يثرب، وأقبلوا ينظمون له الخرز، وكان ذلك شارة الملك عندهم. ولكن يظهر أنه لم تكن هناك رغبة صادقة في تمليكه. أما الأوس فكانت تكره أن يصير الأمر إلى خزرجي مهما تكن فضائله، وأما الخزرج فقد كبر على كثير من أحيائها أن تولي رجلاً وسمها بالغدر وخذلها عند الحرب، فكان بذلك مسؤولاً إلى حد ما عن هزيمتها. وأما اليهود فلا شك في أنها كانت تستنكف أن يلي أمرها مشرك ولو كان ابن أبي نفسه.

فلما لقي حجاج الأوس والخزرج الرسول بموسم الحج وأطلعوا على سيرته وحالته وجدوا فيه ضالتهم المنشودة. فهو وحده الرجل الذي تستقيم على يده حالهم المختلة، وتجتمع على حكومته آراؤهم المختلفة، هو نبي عربي يتنزل عليه الوحي من السماء، وبذلك يحتجون به على اليهود. نعم إنه من الناحية السياسية يعتبر أجنبياً عن يثرب، ولكن حكومته لن تكون أجنبية. أليس الأنصار هم الذين سيكونون عدته ومادته؟ فأي حكومة ليثرب يمكن أن تفضل هذه الحكومة؟ إذن فليعدلوا عن تمليك ابن أبي، وليبايعوا محمداً، وليكن ذلك في غيبة ابن أبي وليكتموا ذلك الأمر عنه كتمان النبي إياه عن قريش.

تلك كانت الحال المعنوية للأنصار عندما بايعوا النبي بيعاتهم الثلاث بمكة. قال بن اسحق

<<  <  ج:
ص:  >  >>