عند كلامه على العقبة الأولى (. . . وقالوا له (للنبي) إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فان يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم) وروي ابن إسحاق أيضاً عند كلامه على بيعة العقبة الكبرى (. . . فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال بل الدم الدم! والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم). فالمسألة من ناحية الأنصار لا تعدو أن تكون حلفاً سياسياً قوامه الفكرة الدينية. أما من ناحية الرسول فلم تكن كذلك. فالرسول إنما كان يريد إذ ذاك بلداً يأمن فيه على دعوته وأصحابه، وقوماً يحمون ظهره حتى يبلغ رسالته. وقد أصبح ذلك مكفولاً له بالبيعة الأخير، وإذن فلم يبقى إلا الرحيل من مكة إلى المدينة
ورأى الرسول اغتنام الوقت فأذن لأصحابه في الخروج إلى يثرب في أواخر ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة للنبوة. فجعلت جماعاتهم عندما استهل المحرم تخرج من مكة أرسالاً وتنزل على الأنصار في دورهم. فخرج في نحو شهرين زهاء المائتين. وقد أقفرت دور برمتها بسبب الهجرة. من ذلك دور بني مظعون وبني جحش وبني البكير. قال ابن هشام (فغلقت دار بني جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام ابن المغيرة. . . وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة ابن ربيعة تخفق أبوابها يباباً ليس فيها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء ثم قال:
وكل دار وان طالت سلامتها ... يوماً ستدركها النكباء والحوب
ثم قال هذا عمل ابن أخي هذا، فرق جماعتنا وشتت أمرنا وقطع بيننا) ولم يبق بمكة من المسلمين إلا النبي وأبو بكر وعلي وإلا من كان مفتوناً أو محبوساً أو مريضاً أو ضعيفاً عن الخروج.
وأحست قريش الخطر الذي أصبح يتهددها من جراء تلك الهجرة وذلك الحلف الذي عقده محمد مع أهل يثرب. فاجتمع ماؤها في دار ندوتها ليقلب الأمر على وجوهه ويصدر فيه