كثرته قليل، والإنسان يريد منها عددا كآماله لا حد لها ولا حصر. فأخذ يبحث ويدأب ويصمد ويصابر الجيل بعد الجيل حتى أتى من الأصباغ بما تحسده الطبيعة عليه، أو لعل الأوفق أن نقول بما تغتبط الطبيعة به، فالإنسان بعضها. أتى من الأصباغ بما يطابق أصباغ النبات أحياناً ويشابهها أحياناً، وأتى منها بما يفوقها زهواً وإشراقاً، وأتى منها بعدد يكاد يجل عن الحصر وخلط بينها فأتى بكل لون وقعت عليه أعين الأحياء وهم أيقاظ صاحون، وكل لون وقعت عليه أعينهم وهم نيام يحلمون، أتى بألوان تزري بألوان الربيع في إبانه، وتستحقر ما يتنزل به وحي الشاعر عند صفاء قريحته وفي سمو خياله.
ورأى الإنسان الطائر يطير فأراد أن يقلده في طيرانه، رآه طليقا من قيود الأرض مالكا أعنة الهواء يسرح في أبعاد ثلاثة من طول وعرض وارتفاع، فأراد أن يكسر قيده ويستعير للهواء أعنة ويزيد على بعدي هذا السطح الأرضي بعداً ثالثا، وبعد خيبة تتلوها خيبة، وبعد نفس تتبعها إلى خالقها أنفس، وُلدت الطائرات، ولم تولد كالإنسان في ساعة ولا يوم ولا عام، وإنما يوم ميلادها كان حقبة من الزمان، فلم تكن بنتاج ذهن، ولكن نتاج أذهان، وأصبح إنسان هذا العصر يطير في الجو كيف شاء وحيث شاء، وحصد بنو اليوم حصادا حصدت في سبيله رقاب بني الأمس.
ومن أحدث الأمثلة في تقليد الإنسان للطبيعة ما جاءت به الأنباء منذ قريب بما يحق لنا أن نسميه ثورة قصد العلم إليها في الإضاءة والضياء. كنا في الأزمنة الأولى نقنع في حلك الليل بالضوء القليل يخرج علينا من حريق الخشب مع فحمه ودخانه، وحمدنا القدر لما هدانا إلى الزيوت والشموع نشعلها على هوانا ونطفئها على هوانا، وزدنا للقدر حمدا لما تهيأت لنا مدخنة من زجاج وضعناها على المصباح فوقتنا سخامه، وجاء المصباح الكهربائي فوجمنا له حيناً نحسبه من عمل السحرة أو صنع الشياطين، ولما اطمأننا إليه زدناه على السنين شدة وزدناه جمالا، وكنا نحسب أن هذا غاية المنى ومنتهى الأمل، ولكن الإنسان بعد أن وجم لهذا المخلوق الجديد مستغربا معجبا، وبعد أن رباه ونماه فخورا زاهيا، وجد أخيرا أنه لم يبلغ به هواه. ونظر إلى الشمس في بياض ضيائها وبارح سناها فابتسمت له أو ابتسمت منه، فوجد فيها الغاية التي ليس من بعدها غاية. وتبين فيها آية الطبيعة الكبرى والمثل الذي تضاءل بجواره الأمثال. فرجع يقسم ألا يفتر له عزم حتى