حسن استقباله بالمدينة. فما كان يوم الجمعة خرج من قباء إلى المدينة يحف به ملأ بني النجار. وقد لحقه بقباء علي بن أبي طالب بعد أن أدى عن الرسول ما كان للناس عنده من الودائع. ولما اطمأن الرسول بالمدينة انفذ إلى مكة من حمل إليه أهل بيته.
ليس يسيراً على المؤرخ أن يصور مقدار المشقة التي لحقت المهاجرين الأولين من جراء هجرتهم من وطنهم إلى بلد ناء ومعشر غرباء. لقد كان أول مظهر لهذه المشقة أن تأثروا بجو المدينة الوخم لأول قدومهم فاعتلت صحتهم وأصابتهم الحمى وعراهم داء الحنين إلى وطنهم القديم، حتى لقد كان بعضهم يهذي بذلك إذا أخذه دوار الحمى. البلاذري بإسناده عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت (لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مرض المسلمون بها فكان ممن اشتد به مرضه أبو بكر وبلال وعامر بن فهيرة. فكان أبو بكر يقول في مرضه:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ وحولي أذخر وجليل!
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل تبدون لي شامة وطفيل!
وكان عامر بن فهيرة يقول:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمى جلده بروقه
قال فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: اللهم طيب لها المدينة كما طيبت لنا مكة، وبارك لنا في مدها وصاعها).
وتتمثل هذه المشقة كذلك في الفاقة الشديدة التي صار إليها المهاجرون بسبب الهجرة. فقد خلف أكثرهم أمواله بمكة فعدت عليها قريش فاغتصبتها تشفياً من أصحابها. روى صاحب أخبار مكة (انه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح (فتح مكة) ألا تنزل منزلك بالشعب؟ قال وهل ترك لنا عقيل منزلاً. قال وكان عقيل ابن أبي طالب قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنازل أخوته من الرجال والنساء بمكة حين هاجروا ومنزل كل من هاجر من بني هاشم، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل في بعض