يسمون فوقه. وأراد المقوقس العظيم أن يعرف حقيقة أمر هؤلاء المغيرين لعله يعطيهم بعض مال فيرتدوا عنه، فقال له أحد القواد:(دع عنك هذا فما هم بمن يأتي من أجل الذهب حتى إذا ما بذل لهم ذهبوا به عنا) وجعل يقص عليه قصته مع رجل من هؤلاء العرب رآه يوماً واقفاً وحده يصلي، فهبط إليه من الحصن مع جماعة من الروم، فترك العربي الصلاة وأقبل إليهم كأنه الصخرة الثقيلة التي تنحدر من عل لا يتردد ولا يلتفت إلى شيء، فهربوا منه حتى أنهم رموا إليه بمناطقهم الذهبية ليلهوه بها فلم يلو على شيء منها، ولم ينجهم منه إلا أن بلغوا الحصن وأغلقوا بابه دونه، ورموه بالحجارة من فوقه. فارتد ولم يلتفت إلى تلك المناطق الذهبية، بل عاد إلى موضعه ليتم ما كان فيه من الصلاة وتركهم يخرجون من حصنهم لاسترجاع مناطقهم ثم يعودون على حذر
تعجب المقوقس العظيم، وأراد أن يستطلع حقيقة الأمر فبعث بجماعة من الروم رسلا إلى قائد القوم فرأوا من هؤلاء المغيرين ما لا عهد للروم به من قبل. قال الرسل:(رأينا قوماً، الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة. إنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم. ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد. وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد. يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم).
لم يكن هذا شأن شعب من شعوب الهمج الذين افترسوا اطرف الدولة الرومانية. وهذه أول مرة يجتمع فيها إلى الاستهانة بالحياة والشجاعة التي لا تعرف خوفاً، خلق متين ونظام لا ينفك منه أحد. ومن ذا يستطيع أن يقاوم شعباً اجتمع له هذان الوصفان؟
كان أعظم ما يخشاه الروم في مصر أن يعرف شعب مصر حقيقة هؤلاء العرب، فلو أنهم عرفوا العرب لأمنوا إليهم، ولو أمنوا إليهم لأصبح الروم ولو كثر عديدهم غرباء عن الأرض قد فقدوا الناصر والتابع. غير أن شعب مصر ما لبث أن عرف الحق واتصل بهؤلاء المحاربين، فلقد كانوا في سيرهم لا يسيرون سير الجيوش المغيرة المدلة المتكبرة المفسدة، بل كان الطفل آمنا بينهم، والمرأة لا يلحقها أذى من نظرة أحدهم. إذ كانت عداوتهم لجيش الروم لا لأهل مصر، بل إن أهل مصر كانوا موضع وصية خليفتهم ووصية نبيهم الكريم، ومنذ رأى أهل مصر ذلك صاروا حلفاء لهم على أولئك الروم الذين