طالما طغوا وبغوا وظلموا وعسفوا وأحرقوا وعذبوا ولم يرعوا في رعيتهم ما كان في أعناقهم من أمانة. وما هو إلا عام حتى كان العرب على انتظار تسليم الإسكندرية ذاتها بعد أن دان لهم داخل البلاد.
وكان الحاكم العربي عمرو بن العاص لا يدع فرصة لتذكير جنوده بما عليهم من الواجب نحو أهل البلاد التي حلوا بها، وكأننا به يتطلع بخياله القوي نحو ذلك اليوم الذي يمتزج فيه قومه الصحراويون بقبط مصر، وينشا من ذلك الامتزاج شعب جديد يقوم على إنشاء مدنية جديدة. وقف عمرو يخطب في قومه عند حلول الربيع وقت ذهاب العرب إلى الريف ابتغاء أن يصيبوا من خيراته لأنفسهم ولخيولهم. وقال عند ذلك في خطبته:(واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا، وإياكم والمسومات المعسولات. . . حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا، فان لكم منهم صهراً وذمة، فكفوا أيديكم وعفوا فروجكم وغضوا أبصاركم. . .))
ولقد سار العرب على وصية قائدهم الحكيم فلم يشك أحد من أهل مصر اعتداء على شرفه ولا انتهاكاً لحرمته.
ولقد كان عمرو عفيفاً في حكمه عن العسف والخبط حتى لقد وقف في وجه عمر بن الخطاب نفسه دفاعاً عن سياسته المالية الرحيمة، ثم عزل عن مصر في أيام عثمان دفاعاً عن تلك السياسة عينها. وكانت سياسة العرب على تقلب الأيام واختلاف الدول مدى القرنين الأولين من بعد الفتح سياسة اعتدال ورفق، تسمع ذلك متردداً على لسان أساقفة القبط الذين تركوا لنا في دواوينهم ذكراً من تلك الأيام.
قال أحدهم عندما عاد بنيامين بطريق القبط آمناً بعد أن هرب ثلاثة عشر عاماً من اضطهاد الروم:(الحمد لله الذي أنجاك من الكفرة (الروم)، وحفظك من الطاغية الأكبر الذي شردك فعد إلى أبنائك تراهم ملتفين حولك مرة أخرى).
ونقل عن بنيامين البطريق الأعظم للقبط انه قال يصف عودته عند فتح العرب:(كنت في بلدي وهو الإسكندرية فوجدت بها أمناً من الخوف، واطمئناناً بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة (الروم) وبأسهم) (وقد فرح القبط كما يفرح الاسخال إذا ما حلت لهم