ولنتعرف كنه هذه الحضارة، ولنتدبر الأسباب التي نقضت هذا الحكم، وهدمت ذلك البناء. وليكن ذلك التدبر وسيلة إلى العظة والاعتبار، فنأخذ من الذرائع ما يكفل النهوض، ونتجنب من العلل ما طوى للعظمة العربية علمها الخفاق.
فإذا عرف الطالب العربي ماضي الأمة العربية بأمجادها ومفاخرها، ووضحت له أسباب تدهورها وخمود جذوتها، وكان قبل ذلك آخذاً من المعرفة بالقسط الأوفى، بدأ يدرس الحاضر وأدواءه، فالطبيب لا يجدي علاجه إذا لم يكن تشخيصه للمرض صحيحاً، ولن تفيد العقاقير مهما تكن قيمتها شيئاً. وإن كثيراً من المصلحين لتذهب جهودهم هباء على الرغم من قوة عزيمتهم وحسن بلائهم، لأنهم لم يفقهوا البيئة التي حاولوا إصلاحها، ولم يتلمسوا العوامل المؤثرة فيها، ولم يتعلموا كيف توجه الشعوب وكيف تواجه العلل
فليكن هم الطالب العربي أن يدرس العلل الخلقية والاقتصادية التي أثرت في البلاد العربية فردتها عن الصدر، وقد تكون هذه العلل واحدة تشترك في معاناتها سائر أقطار العرب، وقد تكون لكل قطر علته الخاصة به، فعلى كل الطالب أن يتفهم العلل التي ينفرد بها وطنه الأصغر، ثم يتفهم العلل المشتركة التي تصيب وطنه الأكبر؛ فإن كان هناك فرقة استجلي أسبابها ودواعيها، وإن كان هناك جهل أو ضعف خلقي تفحص مصادره وبواعثه، وإن وجد تخلفاً في ميدان الصناعة أو التجارة استهدى إلى بواطن هذا التخلف. ومتى فرغ من هذا الدرس والفحص أمكنه أن يرسم منهاجاً سليماً لنهضة علمية خلقية عملية على أساس قويم.
وجدير بكل طالب عربي أن يتمثل له الوطن الأصغر والوطن الأكبر. فوطنه الأصغر شبيه بالأسرة تضم ما لها من أبناء، ووطنه الأكبر شبيه بالأمة تحتوي سائر الأسر. وإني لأتصور الأمم العربية كلها أسرة كبيرة واحدة لها أب واحد وأم واحدة، فشاء ذلك الأب أن يوفر لبنيه الكثيرين أسباب الاستقلال والنماء ففرقهم في منازل شتى يعنى كل منهم بشأنه، ولكن تبقى بينهم أواصر القربى تجمعهم تحت لواء واحد تؤلف بينهم عند الأحداث فإذا هم كالبنيان المرصوص. والحق أن من يزور الأقطار الشقيقة يحس هذا الشعور وهو يجتاز بلداً إلى بلد، ويتنقل بين أهل وأهل، فلا حدود ولا فوارق، وإنما هو وطن بعيد الأطراف وحدت بين أجزائه المترامية روابط الدين واللغة والثقافة، وألفت بين قلوب أبنائه آمال