الرد يتلخص في أن (زكي باشا) هو نفسه الذي أمضى باسم (زكي مبارك)، وحجتي أن الباشا مشغول بمناوشتي على صفحات البلاغ، فأنا ملء قلبه، ومن السهل أن ينسى اسمه ويذكر أسمي؛ ورأى زكي باشا أن التعليل مقبول، فذهب إلى إدارة التلغراف وطلب أصل البرقية، ثم ابتسم حين شاهد أنها باسم زكي مبارك، وبخط الباشا الظريف؟
لم يكن بد من أن يدرك زكي باشا أن الأقدار أرادت أن تطوقه بالخطأ ليكف عني أذاه. فاتصل بي تليفونياً ليدعوني إلى العشاء وإمضاء عقد الصلح، فأجبت بالقبول
دخلت على الباشا العلام العلامة (العالم حقاً والعلامة صدقاً، فزكي باشا طراز وحيد من العلماء، وليس من السهل أن يجود بمثله الزمان). دخلت على الباشا فوجدته في ثياب البيت وهو يلعب الشطرنج مع الدكتور (أحمد عيسى) فأشار بعد السلام إلى أن انتظر لحظات، فسيغلب الدكتور أحمد عيسى ثم يلتفت إلى واجب الترحيب!
ومرت ساعة وساعة والخلائق تتقاطر بميعاد وبدون ميعاد؛ فعرفت أن العشاء في بيت زكي باشا ليس لمن دعي إليه، وإنما هو لمن تداعوا إليه!
ثم مُدَّ السماط على الطريقة العربية، وأقبل خادم فقدم إلى الباشا ورقة مطوية فمحا الباشا كلمة وأبقى على كلمة. فماذا محا؟ وماذا ثبت؟
كان التفاضل بين نوعين من الشراب: أحدهما عصير الشعير وثانيهما منقوع الخروب. وقد رأى الباشا أن يكرم ضيفه المتخرج في السوربون فاختار الشراب الأول وهو شراب أصهب يستطاب في ليالي الصيف!
لم أكن دخلت (دار العروبة) من قبل، ولا كنت عرفت كيف ظفرت بذلك اللقب الظريف؛ وكان مبلغ علمي أن صاحبها يتحدث عن العروبة في كل يوم؛ فهي دار العروبة لأنه شيخ العروبة، والألقاب لا تعسر على أحد في هذا الزمان!
وفي تلك الليلة عرفت ما لم أكن أعرف: عرفت أن زكي باشا يسير سيرة العرب القدماء، فبيته مفتوح للجميع، ومن حق أي إنسان أن يحضر وقت الغذاء أو وقت العشاء بدون احتياج إلى استئذان، على شرط أن يترك للباشا حرية التصرف في وقته بعد رفع السماط
والحق أن زكي باشا كان ينوب عن مصر في مهمة من أصعب المهمات؛ فقد كانت داره مثابة الوافدين من الشرق، ولم يكن لأي ضيف أن يتهم مصر بالبخل وزكي باشا موجود.