للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ومضى الباشا لإحضار الهدية، ثم عاد ومعه كتاب في أكثر من خمسمائة صفحة بالخط الكوفي، وهو مجلد على طراز المصاحف المحفوظة بدور العاديات

أقبلت على الكتاب بلهفة وشوق، ثم لاحظت أن منزلتي عظمت في قلب زكي باشا حين رآني أقرأ الخط الكوفي بلا عناء، وعندئذ تذكرت جناياتي على نفسي وعلى مصيري في هذا الوجود

وما تلك الجنايات؟

سأتكلم بصراحة لأخدم قرائي، فقد يكون فيهم من انحرف عن طريق النفع كما انحرفت

يعرف الناس أني مثال الحرص على طلب العلم والأدب وتعرف مكتبتي أني صديق يزورها في كل يوم، ويعرف قلمي أني أخلو إليه في كل ليلة ساعة أو ساعتين

فكيف تخلفت مع ذلك الحرص؛ وكيف جاز أن أكون واحداً من الناس، وكفاحي يوجب أن أكون أوحد الناس، لو نجوت من ذلك الانحراف؟

يرجع التخلف الذي أعانيه إلى أني أقبلت على علوم وفنون يقبل عليها أكثر الناس، ويصعب فيها الادعاء، لأن عليها رقباء يعدون بالألوف

أردت التفوق في علوم اللغة العربية فوصلت إلى أشياء، ولكن علوم اللغة العربية مبذولة لجميع الطالبين، وليس من العسير أن يكون لي نظراء في كثير من البلاد

وأردت التفوق في الدراسات الجامعية فنلت إجازة الليسانس مرة وإجازة الدكتوراه مرات، ولكن الدراسات الجامعية لم تعد من الأسرار، فمن السهل أن يكون لي فيها منافسون

وأردت أن أكون من كتاب اللغة العربية وشعرائها وخطبائها فكان ما أردت، ولكن هذا الميدان محفوف بالأخطار في كل صباح وفي كل مساء بسبب نشاط الزملاء

وأردت أن أتفوق في اللغة الفرنسية فبلغت ما أريد، ولكن اللغة الفرنسية يجيدها ألوف أو ملايين، فأين مجال التفرد والازدهار؟

آه، ثم آه!!

كان الرأي أن أقصر جهودي على اللغات الميتة، وهي لغات يدعيها من شاء كيف شاء، بلا رقيب ولا حسيب. ألم تسمعوا أن في الناس من يزعم أنه يجيد عشر لغات من لغات القدماء: كاللاتينية واليونانية والديموتيقية والسريانية والبابلية والحبشية والسنسكريتية

<<  <  ج:
ص:  >  >>