للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ومع هذا لم يكن (آدم) يدرك ما في هذه المظاهر من غرابة وشذوذ، فما كان سمع ولا عرف أن في الوجود أشياء فيها إيذاء.

وأقول: إن ذلك الأمان الموصول هو الذي أخمد عواطف (آدم) وأغناه عن التسلح بالنسل، وحبب إليه طعم القرار والهدوء والخمود. وكذلك صنع الأمان (بحواء)، فغفت عواطفها الجنسية، واستنامت إلى العقم، وهو مرض لم تلتفت إليه إلا حين رأت إحدى الظبيات تباغم رشأها الوليد في بعض غياض الفردوس.

ويؤيد هذه النظرية أن (آدم) لم ينجب إلا حين هبط الأرض، فقد شعر بالخوف، وأدرك أن لابد له من أنصار وأعوان من الأبناء.

ومعنى ذلك أن الذرية ضرب من الفاعلية الحيوانية، وهي تصدر عن الرجل كما يصدر السم عن ناب الثعبان.

وفي هذا المقام نشرح ظاهرةً لم تشرح من قبل، وهي ما يلاحظ من قلة النسل عند العبقريين، فما التعليل الصحيح؟

يرجع السر إلى أن السلاح الماضي في يد الرجل العبقري هو مواهبه الذاتية، فهو يحارب بالفكر قبل أن يحارب بالنسل، وهواه لا يقف عند إخضاع الخصوم من الأهل والجيران، وإنما يمتد إلى إخضاع الألوف والملايين من سكان الشرق والغرب والشمال والجنوب.

والنسل الحسي عند الجاهل سلاح موقوت يخلقه الخوف؛ أما النسل المعنوي عند العالم، فهو سلاح موصول تخلقه الرغبة في السيطرة الدائمة على الأفكار والعقول.

ولهذا السبب كانت ذخائر الأمم من الذرية لا تصل عن طريق العبقريين، لأن هؤلاء لا يشعرون بالانفعال الحيواني شعوراً يكفي لأن تصدر عنهم الأنسال الكثيرة، وإنما يتجه انفعالهم إلى جانبٍ آخر هو الرغبة العاتية في غزو العالم عن طريق الفكر والبيان.

وهل فطن أحد إلى المعنى المطوي في قول كثير:

يُغاثُ الطير أكثرها فراخاً ... وأمّ الصقر مِقلاتٌ نَزُورُ

فما معنى ذلك؟ معناه أن أم الصقر لا تحتاج إلى حماية، فهي لا تكثر من الذرية. ومعناه أن ضعف البغاث يوحي إليها بالإكثار من الأفراخ لتقاوم خصومها بالقوة العددية في حدود ما تطيق.

<<  <  ج:
ص:  >  >>