لما كان الله تام الوجود كامل الفضائل عالماً بالكائنات قبل كونها، قادراً على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته فلا يجود بها ويفيضها؛ فإذا بواجب الوجود قد أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض النور والضياء من عين الشمس. والله سبحانه لا يباشر الأفعال بذاته، بل يقتصر على الأعمال الكلية، أما التفصيلات فيدعها لملائكته الموكلين (وما أمْرُنا إلا واحدةٌ كلمحٍ البصر)، ويقول تعال كذلك:(وما خلْقُكُم ولا بعْثُكُم إلا كنفْس واحدة). ونسبة الأفعال التي تجري على أيدي عباده إلى الباري سبحانه كنسبة أفعال الملوك إذا قيل بني فلان الملك مدينة كذا، وحفر نهر كذا، فهؤلاء الملوك قد أمروا فقط، أما مباشرة العمل فتركت لغيرهم
وعلم الله تعالى محيط بما يحوي العقل من المعقولات، والفعل محيط بما تحوى النفس الكلية من الصور، والنفس محيطة بما تحوى الطبيعة من الكائنات، والطبيعة محيطة بما تحوى الهيولي من المصنوعات
تأثير أخوان الصفا
قد بينا سابقاً تلك الدعاية المنظمة التي قام بها أخوان الصفا لحمل الناس على الدخول في مذهبهم، وقد أدى نشر هذه الرسائل الآنفة الذكر إلى نشر الفلسفة ومبادئها، واشتغال الناس بها؛ إذ كتبوها بلغة سهلة تناسب عقلية الجمهور، ومزجوها بالدين مقتبسين كثيراً من آي القرآن الكريم حتى لا ينفرون منها، ووضعوا فيها مبادئ عامة من كل فن، فكانت من الوجهة العلمية موسوعة احتذى حذوها كثير من المؤلفين فيما بعد
وقد حملت الرسائل على رجال الدين والفقه، وأدى ذلك إلى اشتغال كثير من هؤلاء بالرد عليهم وتكفيرهم كابن تيمية وابن حجر وغيرهما. ثم أن رسائل إخوان الصفا كانت أول محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة، تلك الخطة التي اقتفاها الفارابي وابن سينا وابن رشد فيما بعد، والتي تأثروا فيها بإخوان الصفا كما تأثر هؤلاء بالأفلاطونية الحديثة بعد أن تنصرت ونقلها السريان إلى لغتهم محاولين أن يتخذوا منها دعامة لتأييد مذاهبهم المتعددة. . .
والرسائل كانت دستورا لطائفة الإسماعيلية كما رأينا من قبل فيها رموز وإشارات