الشعر كله في هذه اللغات، ينعدم كل تنسيق منطقي أو صوغ للجمال. بيد أن لهذا الأسلوب مزاياه في التأثير بما يقوم عليه من العناصر اللفظية الخاصة بكل لغة، وهي مؤثرات يفهمها كل إنسان يعرف هذه اللغة، دون أن يعني بشرحها أو ترجمتها
وقد ذهبت الثورة على المبادئ والقواعد المرعية إلى حد اقصد إلى معالجة القبيح الشاذ. نعم استعمل أولئك الشعراء الروى والقافية ولكن دون شكل ولا قاعدة، بل حولوا الوزن والتناسق إلى خلل وتنافر. ولم يكن شعر هذا العصر يمتاز فقط بالتحلل والغموض، ولكن يمتاز أيضاً بنوع من الضيق والقبح والشناعة. وليس هذا فقط فيما يتعلق بحرية التعبير، بل هو كذلك يتعلق بالميل إلى ذلك التبسط العنيف القبيح، والى ذلك اللفظ الضعيف المغصوب، فقد كان هذا الميل هو طابع الإنشاء
ويرد أنصار (التعبير) على ذلك بأسباب يرجع بعضها إلى الطموح إلى الجمال، فيقولون إن الأمر يتعلق بتجارب لفظية وصور فنية للأشياء أهملت ولم تطرق من قبل، ويرجع البعض الآخر إلى العاطفة وفلسفة التاريخ حيث يقولون أن البيان الذي أتى به عصر محطم ممزق يجب أن يقوم على شيء من الخلل والقبح والهوس، وان ميلاد عصر جديد، أو إنسان جديد كامل يقع دائماً في غمار الألم والقبح. ثم يقولون إن عين العصر الحاضر كعين ساكن جهنم في أسطورة أفلاطون لابد أن ترى اليوم قبيحاً، ما يراه عصر جديد، أنقى الانطباع والجمال.
- ٣ -
وما كان ذلك كله ليرضي غير طائفة قليلة من المفكرين الخبثاء أو الذين لا خلاق لهم. ولو لم تكن الحرب وما بعد الحرب لبقيت الحركة محصورة في هؤلاء. ولكن هذه المحاولات التي كانت تقصد إلى عدم المساس بالأذواق والمظاهر الشعبية في الفن والأدب بل تقصد إلى إثارتها، استطاعت بسبب انحلال العصر واضطرابه أن تغزو أوساطاً عظيمة
ذلك أن الرجل العادي الذي فقد صوته في جحيم الخنادق وذعر الهزيمة؛ ألفى في هذه الموسيقى الثورية المضطربة بيانه الطبيعي وبدا الأسلوب الجديد الذي صيغ سراعا في صوت الملاك، أو صوت الحيوان، ولكن لم يصغ قط في صوت الإنسان الأمثل، في نظر الجموع، أنشودة أولئك المساكين الذين كانوا يرقدون نصف عراة في الخنادق لا يفكرون