للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

حسين ونشأت بيننا مودة كانت أرفع وأجمل من أن تعيش طويلاً. لقد لبثنا شهوراً وكأن أحدنا قد عثر على شيء ثمين بعثوره على الآخر. إن طه شخصية عظيمة باهرة. إنه من شخصيات التاريخ بلا جدال. والتاريخ فيما يخيل إليَّ فنان، يتخير أشخاصه بيده ويطبعهم بخاتمة حتى قبل أن يلبسهم أدوارهم ويدفعهم إلى مصائرهم العظمى! لقد كان حديث طه يسحرني، وشئونه تعنيني. . . لقد كان مجرد اسمه يذكر أمامي يجعل نفسي تتفتح مبتهجة كأنها زهرة مر عليها نسيم! وربما كنت أنا أيضاً أنزل من نفسه بعض هذه المنزلة. فقد كتب ذات مرة يقول: (إني أسمع اللوم لأني أحب توفيق الحكيم، وأقرأ الشتم لأني أكبر توفيق الحكيم، وأنا أبسم للوم اللائمين وأضحك لشتم الشاتمين. لأني لم أحب هذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الحب، ولم أعجب بهذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الإعجاب!)

لكن. . . وا أسفاه! لقد تغلب أولئك الشاتمون واللائمون آخر الأمر، وفازوا بمأربهم وأشعلوا نار الوقيعة بيننا، واضعين أيديهم على مواطن الضعف فينا، وضعف الفنان هو عزته وكرامته وإن شئت فقل غروره. . . . وهكذا لم يستطع طه حسين أن يحتفظ طويلاً بابتسامه وضحكه أمام الساعين بالسوء؛ ولم أستطع أنا أن أحتفظ باتزاني، فأنقذ المودة الصادقة، وأضحي بالعزة الكاذبة. . . وبهذا حطمنا تلك الجوهرة التي منحتنا إياها السماء. . . من أجل. . . من أجل ماذا؟

لست أدري ما حدث بعد ذلك، فذاكرتي الآن لا تسعفني، كل ما أذكر أننا حاولنا أن نرم ما تحطم. . . ولقد أقمنا معاً بعض الصيف في جبال الألب. . . فضحكنا كثيراً، ولهونا طويلاً، بل لقد ألّفنا معاً هناك كتاباً. . . ولكن. . . ولكنها مع ذلك لم تكن الصداقة الأولى. . . لماذا؟ لعل شيئاً في نفسينا لم يكن صافياً كل الصفاء، أو في نفسي أنا على الأقل. . . إني أعترف، لقد كنت أمتنع عن كل ما يؤخذ على أنه ملق أو زلفى. . . لقد كان طه حسين وقتئذ كما هو الآن شخصية ذات نفوذ، وأنا أكره إرضاء أصحاب النفوذ

أنا الذي كان ينبغي له أن يهدي إلى طه حسين كثيراً من كتبه، أو على الأقل (أهل الكهف). . . كنت أتردد في كل طبعة تصدر لهذا الكتاب أو غيره، ولم أجد في نفسي الشجاعة أو القوة على القيام بهذا الواجب الضئيل. . . لماذا؟ لأن طه من أصحاب النفوذ! هذا أيضاً ما جعلني أصمت عن التنويه بآثاره وأنا أقدر الناس على فهم ملكاته وهباته. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>