بعيد، ولعله أكثر الناس ابتلاءً بالمخادعين والمرائين، لأنهم أحرص على مراعاة الظواهر من المصافين والموافين، والكاذب يسبق الصادق إلى امتلاك القلوب الخواضع لخوادع الوداد
وتلك الصفحة غاية في القوة من الوجهة الأخلاقية، فالجهل يصدنا عن مراعاة الواجب في معاملة الأصدقاء، فتنوهمهم يقبلون منا كل شيء، ويغفرون لنا جميع الذنوب، ولو عقلنا لأدركنا أن الصديق ينتظر أن يسمع منا ما يحب في كل وقت، ويرجو أن نرى سيئاته أشرف من الحسنات، وأن نعدَّه أعظم مخلوق جادت به على الأرض السماء
ومن يُسمع الصديق كلمة اللطف إذا بخلنا بها عليه؟
وما حاجة الصديق إلينا إذا صارحناه بعيوبه كما نصارح الأعداء؟
آفة الصداقة أن نعاملها كما نعامل العداوة، باسم الحرص على الشجاعة الأدبية، مع أن للصداقة حقوقاً أيسرها التغاضي عن هفوات الصديق
ونحن في الغالب نلاطف الأعداء ليصيروا أصدقاء، ونتناسى حقوق الأصدقاء، لأن ودهم مضمون، ثم تكون النتيجة أن يعدّنا الأعداء من أهل الرياء، وأن يعدنا الأصدقاء من أهل العقوق
والدكتور طه لا يلتفت إلى ما يفسد الصداقة عن عمد وإصرار، لأنه أوضح من أن يحتاج إلى التفات، وإنما يلتفت إلى الشوائب التي تصدر عن نبرات الصوت، وحركات الجسم، ولحظات الطرف، وهي (أشياء يسيرة تحسُّ وتُلحظ، ولكنها لا تكاد تثبُت للتصوير والتعبير. هي أيسر من ذلك وأدق. هي تنفذ من أعماق النفوس إلى أعماق النفوس، لا تكاد تمر على الألسنة، ولا تكاد تستقر في العقول، ولا في مظاهر الحس والشعور، وهي من أجل ذلك مؤذية مهلكة شديدة الخطر على الحب والود، وعلى ما بين الناس من صلات، هي أشبه بهذه الجراثيم التي كانت تفتك بحياة الناس وتذيع فيهم ألوان الوباء والموت دون أن يحس لها الناس وجوداً، أو يستطيعوا منها احتياطاً. ولكن العلم قد كشف هذه الجراثيم، وأخذ يعلّم الناس كيف يعرفونها وكيف يدرسونها وكيف يتقونها. . . فمتى يستكشف العلم هذه الجراثيم المعنوية التي تفسد الود وتفتك بالحب وتقطع أمتن ما يكون بين الناس من صلات؟)