إذا استافها الرجل العبقري ... تحول كالحيوان الوخِم
تضج البلاهة من حوله ... وينظر كالصنم المبتسم
وإذا ما تضاعفت نشاط الذهن والمخيلة، وزادت يقظة الشعور حتى تناهى نشاطهما ويقظته معاً، فذلك فوران النفس الشحوذ في الشاعر الموهوب فوراناً يضطره إلى الإفضاء بما يخامرها، فيتبعّث منها الشعر؛ وذلك هو شيطان الشاعر في حسَّة تجليه؛ وتلك هي الملكة أعظم ما تكون حرية وانطلاقاً، وأرفع ما تكون سمواً، وهي بعينها هِزَّة الإلهام الذي ابتدع هذا الصنيع الباهر
ولقد كملت صفاته الشعرية بما عليه من مسحة عقلية، لا من العقل الفلسفي الهادئ، بل من العقل الذي جعل الملحمة مشابهة للحقيقة، إذ خلت من التناقض في مواقف أبطالها وفي نفوسهم الظاهرة أحوالها من كلامهم على ما شاءت لهم الفطرة والأقدار واستقام في خيال الشاعر.
ومما زاد الملحمة مشابهةً للحقيقة إتقان المحاورة بين أبطالها، إتقاناً جعلها حية، طبيعية، شائقة، فقد أبدى كل منهم رأياً وعرض حججه، وفي كل من آرائهم شيء مقبول، أو على ظاهر من الحق؛ وكان كلامهم سؤالاً يستدعي جواباً، أو قولاً يجلب اعتراضاً أو تحذيراً؛ واستيقافاً يسلِّم صاحبه جدلاً، أو يبدي تحفظاً؛ وبياناً يحوز موافقة، أو يثير دهشة أو إعجاباً
ثم إن هذا الموضوع خرج في وحدة سالمة من الاضطراب ومن النظام الرتيب، إذ له مدخل شعري لطيف الإشارة إلى الغرض منه، ووسط يشرحَه، وخاتمة يحسن السكوت عليها؛ وأجزاؤه مرتبة ترتيباً يوثق العلاقة بينها، ويشد فيه بعضها بعضاً، ويجمع بينها ارتباط قويّ.
ومن صفات هذه الملحمة وضوح موضوعها لأن وقائعه مختارة بذوق سليم، مسلسلة سلسلة طبيعية معقولة، خاصة من كل تفصيل لا طائل وراءه، ومن كل حادث أو موقف ليس يوافق شرح هذا الموضوع أو ليس بسبيله.
وزد أن الملحمة كلها شائقة جد شائقة بما بين أجزائها من تناسب موفَّق، وبما فيها من إشارة - عن بصيرة وفي قصد - إلى الأسباب في أقوال أبطالها وفي حركاتهم، ومن تشويق إلى الوقوف على الحكم في آرائهم الشائقة في ذاتها، وإن كانت لا تحول حيلولة